عاجل

محمد شاهين يكتب : "عصفور" قامة شامخة في مشروع الثقافه العربية

محمد شاهين يكتب : عصفور قامة شامخة في مشروع الثقافه العربية
محمد شاهين يكتب : عصفور قامة شامخة في مشروع الثقافه العربية

إذا كان طه حسين قد خلّف لنا إرثاً ثقافياً عظيماً نجتزئ منه هنا كتابة مستقبل الثقافة فى مصر، فقد رحل عنا جابر عصفور تلميذ العميد الذى عاش يفتخر طيلة حياته بالسير على خطاه بعد أن ترك لنا ما نعتز به من إنجاز مرموق لحاضر الثقافة العربية. 
هذه على سبيل المثال نشاطاته فى ميدان الثقافة عندما تولى منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة تشهد على عمله الدؤوب نحو إرساء دعائم المشروع الثقافى الذى نذر نفسه لإنجاحه.

تصدرت الرواية مشروع جابر الثقافي؛ فخصص لها مؤتمراً يُعقد كل عامين فى قاعات المجلس الأعلى للثقافة، يدعو إليه أشقاءه العرب من كتاّب الرواية ونقادها للتداول فى أمورها لمدة أسبوع. يُتوّج اللقاء بروائى عربى يفوز بجائزة الرواية فى كل دورة، وقد حظيت شخصياً بحضور معظم الدورات.

وتشرفت بعضوية لجان التحكيم مرات عدة، لمست من خلال حضورى كرم الضيافة التى كان يُستقبل بها جمهور الحضور من العرب. نجح جابر وطاقم مجلسه من عماد أبو غازى إلى نجلاء إلى وائل حسين إلى العلاقات العامة الرائعة فى تحويل قاهرة المعز إلى بيت ضيافة عربى يوحّد بين قلوب أبناء العروبة.

وكثيراً ما كنت أستمع إلى الضيوف العرب وهم يشيرون بكل فخر كيف أن جابر استطاع أن يقدم من خلال الثقافة جامعة عربية غير مسبوقة فى وحدتها واتحادها. استطاع جابر أن يقول للجمهور العربى العريض أن ما يمكن أن يجمعهم.

ويؤسس لهوية جامعة لهم أكثر بكثير مما يفرق شملهم. وهكذا كان رواد المؤتمر يحضرون بشوق اللقاء لبعضهم ويغادرون بشوق يحملونه ويحلمون بتجديده بعد سنتين تاليتين. أ

ضحى المؤتمر طقساً ثقافياً جميلاً يخفف من قسوة العزلة الثقافية التى يعيشونها فى أجزاء متفرقة من الوطن العربي.


 لماذا احتفى جابر بالرواية كل ذاك الاحتفاء، بل وردد فى مناسبات عدة أننا نعيش عصر الرواية؟ هل لأن الرواية فى غالب الأمر هى الجنس الأدبى المهيمن على المشهد الأدبي، أم لأنها أكثر شيوعاً بين عامة الشعب مقارنة بالأجناس الأدبية الأخرى، أم لأن صديقاً له كتب كتاباً نقدياً عنوانه عصر الرواية؟


بدايةً، نظر جابر إلى الرواية على أنها تتسع لإيواء هموم مجتمعها أكثر من غيرها من الأجناس الأدبية، وأن الانطلاق نحو الشروع فى كتابتها لا يتطلب تقنيات مسبقة كما هى الحال فى الوزن والتفعيلة فى الشعر، وتقنيات المسرح المعقدة فى الدراما مثلاً؛ أى أن الروائى يدخل مباشرة من عالم الحياة التى يعيشها إلى عالم الرواية وهو مطلق الحرية، يحمل معه هموم مجتمعه ليجعلنا نراها بمنظور أحلام الرواية.


ردد جابر فى أكثر من مناسبة أن الرواية أضحت «ديوان العرب» كبديل لذلك الديوان فى الشعر. وفى هذا القول ما يجعلنا نستذكر قول د.هـ. لورانس الذى قال إن الرواية كتاب الحياة (The book of life). حمل لينين فى منفاه رواية تولستوى حرب وسلام، يروى أن صداها فى نفسه تسلل إلى ثورة 1917 التى غيّرت تاريخ روسيا. 


كيف كنت تقضى وقتك فى المنفى يا جابر؟
سألته مرة فأجاب إما فى قراءة الرواية أو الاستعانة بتدريس نصوص من الرواية فى تعليم اللغة العربية للأجانب.
وفى كل مرة هاتفت جابر لأعرض عليه ما يريدنى أن أحمله معى إليه قبيل حضورى إلى القاهرة سواء كنت فى عمان أو فى لندن، كان يطلب نفس الطلب وهو ما استجد فى المكتبات من رواية.

وكان الخير يعم عليّ قبل أن يصله؛ إذ كان الطلب يحثّنى أن أُطلع نفسى على ما استجد فى عالم الرواية. سألنى صديق: ما الذى يمكن أن يحمله ضيف إلى مضيفه فى عالم الرواية، أجبته طبعاً رواية أو كتاب عن الرواية أو أى كتاب. وهكذا كنتَ ترى مكتبه فى اليوم الأول من مؤتمر الرواية قد ازدحم بالكتب، بعضاً من زاده خلال عامين تاليين قبيل مؤتمر لاحق للرواية.


ويبدو أن أنصار الشعر أثاروا قضية إقصاء الشعر عن الاهتمام المماثل للرواية، ويبدو أن هذا الأمر دعا جابر إلى الاستجابة. وشكراً لنجيب محفوظ نفسه الذى أوصى أن تُخصص جائزة للشعر كما هى الحال فى  جائزة الرواية.

وهذا ما أقره المجلس الأعلى للثقافة فعلاً، أن يعقد مؤتمراً للشعر كل عامين. وقبيل عقد المؤتمر الأول للشعر طلب منى جابر وكان فى معيته صديقه ورفيق دربه عماد أبو غازى أن أحاول إقناع محمود درويش بالحضور إلى المؤتمر المنوى عقده وذلك قبيل عودتى من مؤتمر الرواية إلى عمان. فى البداية عبّر محمود درويش عن عدم رغبته فى حضور المؤتمر خشية أن يحصل على الجائزة قائلاً: إن زملاءه من الشعراء المصريين أحق منه بالجائزة. اقتنع محمود درويش أخيراً بالحضور إلى المؤتمر ونال الجائزة الأولى التى منحت للشعر فى فبراير 2007.

ولنا أن نستذكر أن الشاعر بدأ منفاه يحط الرحال فى القاهرة عام 1971 بمساعدة محمد حسنين هيكل، وودع القاهرة بآخر جائزة حصل عليها. بُعيد مغادرتنا فندق البيراميزا فى القاهرة إلى المطار همس محمود درويش ونحن فى الحافلة التى كانت تمر فوق الكبري: لا يمكن أن أنسى ذلك الصباح عندما صحوت من النوم لأرى أننى فى كوكب آخر هو كوكب النيل وعالمه العربى لأول مرة فى حياتي! كل هذا يا محمود بفضل جابر ومن حوله من أهل النيل الذى بادلته العشق دوماً. فأجاب أنه ليس نادماً على الحضور، وأنه مسرور جداً أنه حضر فعلاً واستعاد ذكراه العزيزة الأولى فى أرض الكنانة.


لم يكن جابر منحازاً للرواية مقابل الشعر، بل كان يرى فى الشعر الذى يحمل نَفَس الرواية رواية مكثفة؛ كان جابر يبحث عما تعبر عنه المفردة الألمانية التى يصعب ترجمتها ليس إلى العربية فقط، بل إلى اللغات الأخرى التى تُبقى عليها فى سياقها المطلوب، المفردة هى zeigeist وأقرب ترجمة إليها روح العصر. فالشعراء الذين أُغرم بهم جابر هم من حملوا وجع الرواية (إن صح التعبير) بصورة مقتضبة. 


دعا جابر مرة لجنة التحكيم للرواية لتناول الغداء فى المقطم. وفى العودة إلى فندق البيراميزا استوقف الحافلة الصغيرة عند مستشفى الأورام، ليقول لنا بصوت كان يصارع فى إخراج كلماته من حنجرته: فى الطابق الرابع كان يرقد أمل دنقل يصارع المرض العضال.

تحدث جابر وهو يصوب ناظريه إلى ذلك الطابق وكأنه يرثيه بعد رحيله بسنوات. ذرفت عينيه بالدمع. فى اليوم التالى لم يحضر للدوام إلى مكتبه، لا بد أنه لزم الفراش.
كان جابر يعتقد أن ما يجمع بين الروائى والشاعر هو الهم العام، وما يفرق بينهما شكل التعبير. أليست قصيدة أمل دنقل «لا تصالح» ملحمة فى حد ذاتها؟ ألا ينسحب هذا، أيضاً، على قصائد محمود درويش، على سبيل المثال، التى يلتقى صداها مع صدى «لا تصالح» كما هى الحال فى «حاصر حصارك لا مفر» و”عابرون فى كلام عابر» وقصائد أخرى لا يتسع المجال لذكر المزيد منها.

سُئل جابر مرة، كيف يقبل على نفسه أن يتعامل فى وظيفته مع أكبر مؤسسة فى الدولة تمثل رأس الهرم فى السلطة، فى الوقت الذى تعارض أفكاره التقدمية التعامل مع مؤسسات الدولة السلطوية.

أجاب جابر أن العلاقة بينه وبين تلك السلطة هو (الشيك) الذى يصل المجلس القومى للترجمة دون أى تدخل من المانح فى شأن المركز، لا من قريب ولا من بعيد، لم يُفرض عليّ أو على المجلس أى تدخل.

وعندما يحضر أى ممثل أو ممثلة من رئاسة الجمهورية لاحتفال ما أدعو إليه، يحضرون كضيوف مثل بقية أفراد الشعب من الحضور. علاوة على ذلك فرأس الهرم الذى تشير إليه هو الذى أبطل حكم رأس هرم سابق وعمل على إحضارى إلى وطنى (بالمناسبة رفض جابر أن يُعفى عنه لوحده وأصرّ على أن يشمل العفو جميع الذين أُبعدوا معه، وهذا ما حصل) أين المشكلة؟ استطرد جابر: هل الوفاء عيب خصوصاً عندما يكون لرأس الهرم والوطن معاً!


تلقى جابر ، فى إحدى المناسبات، من رئيس مركز ترجمة فى بلد عربى عرضاً بالشراكة فى العمل، موحياً إليه أن الميزانية الضخمة المخصصة للترجمة لذلك المركز ستكون عوناً مادياً للمركز القومى للترجمة.

أجاب جابر بالرفض القاطع مستشهداً بمقولة ماركس: ليس بالمال وحده تحيا الترجمة. سمعته بعدها يقول شكراً لرأس الهرم الذى يغنينى دعمه المادى للمركز عن الاستجداء.
إذا كانت مصر هبة النيل فالمجلس الأعلى للثقافة والمجلس القومى للترجمة هبة جابر عصفور.
رحيله عنا خسارة تبعث أعمق درجات الأسى والحزن، وتجعلنى شخصياً أستذكر بيتين من الشعر قالهما باوند، أشهر شعراء القرن العشرين، ويشار إليهما على أنهما من روائع الشعر العالمي، إن لم يكونا من أجمل ما قيل من شعر فى الإنجليزية لما يمكن أن يتجلى فيهما من قوة يمنحها الحب الحقيقى لصاحبه:
ما تحبه حقاً هو ما يدوم
ما تحبه حقاً هو إرثك الحقيقي
‏What thou lovest well remains
‏What thou lovest well is thy true heritage
هذا هو جابر : أراه يرقد فى هذين البيتين: أحبَّ وطنه حقاً، فثار على دكتاتورية ساداته عندما حلّ ضيفاً عليه (والقصة معروفة ومسجلة فى فيديو). أحب وطنه حقاً فعاد إليه بدلاً من استمراره فى العيش الرغد خارجه فى المنفى.

أحب حقاً طه حسين ونجيب محفوظ وأمل دنقل فأصبحوا إرثه الحقيقي. أما نحن، أصدقاؤه وأبناء عروبته فقد أحببناه بدورنا حقاً وأضحى إرثنا الحقيقى وذاكرة دائمة «ليست للنسيان».

اقرأ ايضا | محمود الورداني يكتب: مع السلامة يا عم جابر