كان آخر ما قرأت لجابر عصفور بجريدة الأهرام رثاء لرفيق عمره معينه وسنده وعقله أخيه الحبيب ونصيحه الدكتور فوزى فهمى الذى أبلغ بوفاته عقب عودته من المستشفى فكانت صدمته مهولة واليوم وياللهول ننعى الناعى فتنقشع أمام عيوننا الباكية.بانوراما عبقرية لسيرة هذا العصفور العظيم الذى حلق فى كافة حياتنا الثقافية بطاقة استثنائية على اقتحام أوكار البيروقراطية والتطرف والإرهاب فى عقر دارهم.
إنه فارس أسطورى بعث لأدوار تكاد تكون مستحيلة بدءاً من سلسلة التنوير التى أصدرها فى خضم الهجمة الإرهابية التى روعت المصريين كافة ونهشت فى حياة غير القليل منهم، فأظلمت عالمهم بدعوة إرساء قواعد الإيمان (الصحيح( القتل باسم الرب.
وإحلال الكراهية الهستيرية محل السماحة والأمان وراحة البال التى كفلها رب العباد لرعيته، فى تلك الفترة من الثمانينيات صدرت مجموعته التنويرية الجسورة فكانت تفنيداً للشرود القاتل وتنويراً عاما يرد على الافتراءات والانحرافات، ويدعم الثقة فى الناس وربما يحول دون إنزلاق أبرياء إلى معسكر الغل والكراهية.
عرفته منذئذ وكان قد تقلد منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة الذى كان قد وصل إلى حالة حزينة من البيروقراطية والشكلانية وشلت قدراته على أداء الدور المأمول منه.
لم ينتقل عصفور من استغراقه فى قاعات المحاضرات والتنظير والكتابة التحليلية والنقدية إلى ديوان المجلس الأعلى كمنصب مرموق ولكنه أتى بعنفوان شبابى وحركية وافق غير محدود للتغيير والتطهير وبناء منظومة متفجرة بالطاقة المتجددة.
طالت جهوده تركيبة لجان المجلس ودولابه التنفيذى وارتباطاته مع المراكز القومية لأطياف الفنون. فنفض عنها معالم الركود وضخ فيها روحا وكوادر جديدة قادرة، تستند إلى روح جديدة من التحدى والاقتحا.
ومعها المؤسسات المرتبطة والتابعة المعنية بالرقابة على المصنفات الفنية والأدبية، وأكاديمية الفنون بالتعاون مع العظيم فوزى فهمى وفريق التنوير بالأكاديمية، وأكاديمية الفنون المصرية بروما وغيرها من الخلايا النائمة لوزارة الثقافة وللحقل الثقافى بفعالياته الشاردة المهمة.
كان مصدر قناعة كبيرة للوزير فاروق حسنى الذى أيده فى التغيير الراديكالى لما تجمدت أوصاله من خلايا العمل الثقافى الرسمى، حيث كان الركود سمة عامة فى البلد الذى لم تكن قياداته تكترث بالعمل الثقافى بأبعاده النقدية والتنظيرية وتنمية الروح الإبداعية وتبنى المبدعين عبر القطر. لم تكن الدولة لتعطى أهمية لذلك وكانت مرتاحة لذلك الأداء البيروقراطى الغارق فى الفساد، وانتهاز الامتيازات والغوص بجسارة لا تحسد عليها.
أقول بكل ثقة إن جابر عصفور اقتحم ذلك الركود المخملى والأداء الشكلى بجسارة وجهد مصحوب بالود والدهاء الديبلوماسى لتسويغ مساعيه وتحويلها إلى قوة نافذة بلا معوقات تذكر.
كانت تلك مرحلة ترتيب البيت وتأهيله الجديد، بالتوازى مع النشر الجسور الذى أكد به مصداقيته، فالتف من حوله عيون الثقافة المبعدون أو المنسحبون أو الذين هاجروا اختياريا إلى فرنسا وغيرها من مراكز التنوير، فنشطت لجان المجلس واتسع نطاقها وتكثفت حواراتها فى تحقيق مهام رفيعة من العمل الثقافى المحلى وتمثيل الإبداع المصرى فى المحافل المرموقة عالمياً، ثم بدأ فى تنفيذ مخططه الواثق فى إعادة لم شمل المثقفين والمبدعين العرب حول بؤرة القاهرة المتوهجة. فدعا شعراء من وزن محمود درويش لإلقاء أشعاره العميقة والثورية الاستشرافية حول الإنسان والقضية الفلسطينية.
دعاه مرات عديدة حتى شعرنا أنه واحد منا نستمع إليه ونشاركه نقاشات وتأملات ودعيا نخبة من أهم نقاد الفن والأدب ومؤرخيه فى العالم ليشاركوا فى المؤتمرات والندوات ويلقونا المحاضرات الطليعية ويتحدثوا عن أوجه الإبداع فى العالم اليوم ويتأملونا النماذج المصرية المتحققة إبداعيا.
ثم أقدم على أكثر البرامج حيوية ومستوى من خلال مجموعة المؤتمرات الاستثنائية التى تبناها المجلس فى عهده مؤتمرات الرواية والشعر العربية التى شارك فيها عيون وثقات ومبدعون ومنظرون ونقاد من أنحاء الوطن العربى و «الدياسبورا».
والمؤتمر الفريد عن أبى حيان التوحيدى وما تمخض عنه من طروح ومناقشات ومنشورات رفيعة المستوى جعلت التوحيدى يعود إلى ديوان الثقافة والفكر المصريين وفى قاعات الدرس وأطروحات الماجستير والدكتوراه فى الجامعات المصرية.
ومؤتمرات عن العلاقات المتبادلة بين أطياف الإبداع فى الفن التشكيلى والمسرح والسينما والشعر والأدب، استهدفت تفعيل الحوار وتنشيط الذائفة وشيوع المفردات فيما بين أرباب تلك المجالات الإبداعية، وتأمل قضايا الهوية والمصطلح.
وكان مؤتمر مستقبل الثقافة العربية احترافيا بامتياز شارك فيه نخبة من المثقفين وأصحاب القرارات الثقافية فى الوطن العربى فى وقت المقاطعة العربية الرسمية لمصر، فالتأمل شمل المثقفين حول القضايا المحورية فى القاهرة كان كبيراً فى أحلامه ورؤاه وأدائه فشهدت الثقافة والآداب والفنون زخماً حيوياً وانجازاً متصاعداً ومتراكماً بقوة واستنارة لم تعطله تلك الفعاليات الحيوية المتتابعة عن كونه استاذاً قديراً وناقداً أدبياً فريداً من نوعه فواصل نشر مقالاته ورأس تحرير مجلات ثقافية كبرى كمجلة فصول التى كان يتولى بنفسه تخطيط مجالات الإعداد والتواصل مع الكتاب لمعالجة الجوانب المتعددة لكل موضوع .
وانتدب أكثر من مرة للتدريس كأستاذ زائر فى كبرى الجامعات الأمريكية ومنها جامعة هارفارد المرموقة، فى ذات الوقت الذى واصل فيه مهام المجلس مع من أوكل إليه المتابعة.
وعلى رأسهم الراحل فوزى فهمى، وتولى إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية فى مهمة نهضية بقدراتها ومهمة أخرى مشابهة فى إدارة الهيئة العامة لقصور الثقافة ثم أسس المركز القومى للترجمة الذى ولد عملاقاً بأدائه المدهش وحصاد انجازه الممتاز قبل أن يتولى حقيبة وزارة الثقافة بعد ثورة يناير ومرة أخرى بعدها، وكان له دور محورى فى اللجنة الرفيعة من المثقفين ورجال الأزهر لإعداد وثيقة الأزهر المرموقة.
وفى الوفود الثقافية بالهند وعدد من البلدان العربية كان نجما بثقافته ومحاوراته وجهوده التنظيمية مع الصفات الشخصية المتميزة بالايجابية والود الجميل.
وفى السنوات الأخيرة كانت مقالاته بالأهرام خصوصاً بمثابة مدرسة نقدية ومنظور فكرى مضىء متبنيا مواقف مهاجما أحوال رآها معطوبة، منظراً عن الثقافة والمثقف، مستعيداً دروساً ومواقف من رحلته الثقافية والمهنية الطويلة الحافلة بضمير المخلص البناء. كان علمانياً واضحاً، يدعو بكل قوة للدولة المدنية وللنظر فى الحاضر من رؤية المستقبل ويعلى العقل على الاتباع ـ العقلى على النقل.
وكان يناهض ملامح التخلف والنكوص بالقيم الرفيعة للعقل المصرى والإنسانى. صاحب رسالة مرئية وملموسة من كل من عرفه أو تعامل معه مباشرة أو عن بُعد.
اقرأ ايضا | شعبان يوسف يكتب : جابر عصفور التفكير خارج الصندوق