د.أحمد مجاهد يكتب : حفيد طة حسين

د.أحمد مجاهد يكتب : حفيد طة حسين
د.أحمد مجاهد يكتب : حفيد طة حسين

رأيت جابر عصفور للمرة الأولى فى منتصف عام 1982، كنت طالبا فى الصف الثانى بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة عين شمس، وأعمل بالصحافة الأدبية العربية أيضا، وكنت أعرف قيمة الرجل العلمية وأقدرها من خلال كتبه وكتاباته فى مجلة فصول، لكننى لم ألتقيه من قبل. وقد كنت مكلفا بعمل موضوع صحفى عن صلاح عبد الصبور فى ذكرى وفاته الأولى، وقد أخترت أن يكون الموضوع حوارا صحفيا مع ثلاثة من أصدقائه: الدكتور أحمد كمال زكى، والدكتور جابر عصفور، والشاعر بدر توفيق.
ذهبت إلى مقر مجلة فصول للمرة الأولى فى حياتى، طرقت الباب ودخلت، كان بالمجلة (كما عرفت فيما بعد) عم عدلى الفراش، والأستاذة اعتدال عثمان سكرتيرة التحرير آن ذاك، وشاب متحمس يرفع أكمام قميصه منهمكا فى قراءة البروفات ومراجعتها، ويداه متسختين بحبر المطبعة. فسألت: هل الدكتور جابر عصفور موجود؟ فأجابنى، بسؤال: مين عايزه؟ فشرحت له، فقال: انتظر هنا قليلا، فانتظرت أتابع ما كان يدور فى غرفة التحرير بشغف بالغ.


لم يمر وقت طويل، حوالى 20 دقيقة، حتى أنهى الشاب عمله، ثم ذهب لغسل يديه، وأنزل أكمام قميصه، وجلس إلى المكتب الذى أنتظر أمامه، ثم قال: أنا جابر عصفور يا سيدى، اتفضل اسأل فى اللى أنت عايزه.


بعد أعوام قليلة، ذهب الدكتور عصفور فى إعارة للكويت، وصرت معيدا بالكلية، وسكرتيرا لتحرير فصول، وفور علمى بعودة الدكتور عصفور بحثت عن رقم هاتفه، واتصلت به، وقلت له أنا فلان، فقال أنا متابعك، وطلبت عمل حوار صحفى معه، فحدد لى موعدا قريبا بمنزله.


ذهبت فى الموعد المحدد، وكان استقباله رائعا، وأجرينا حوارا طويلا، حتى إنه كان يبدو متعبا فى نهايته، فختمت الحوار.

واستأذنته فى الانصراف، فقال: لا إحنا نقعد مع بعض شوية بقى. فقلت: حضرتك تعبت. فقال: لا، أنا لما بأخلص الشغل اللى ورايا بارتاح وكأن شيئا لم يكن. وانتقلنا للجلوس فى شرفة المنزل.


حزنت يومها حين علمت بعدم نيته فى العودة للعمل بمجلة فصول، وقد طلب منى عند انصرافى قراءة مسودة الحوار قبل النشر، فوافقت بالطبع.

وبعد يومين تحديدا هاتفنى الدكتور جابر، وطلب منى حذف جزء مهم من الحوار، يتعلق بنجيب محفوظ، موضحا أن محفوظ فيما يبدو على وشك الفوز بنوب.

وهو لا يحب أن يفهم رأيه النقدى فى توقيت مثل هذا بوصفه هجوما على الرجل. فاستجبت له، لكننى قد ألغيت فكرة نشر الحوار كله، لأن هذا الجزء كان أبرز ما فيه، واعتبرت كأن الأمر كله لم يكن.


قطع طويل لمدة حوالى 10 سنوات فى العلاقة التى لم تتجاوز حدود اللقائين والمكالمة، أبعد خلالها الدكتور عز الدين إسماعيل عن رئاسة تحرير مجلة فصول، وتولى الدكتور عصفور رئاسة تحريرها، واستأذنت أستاذتى الدكتورة هدى وصفى فى أن تعيد معها ما كان عندى من مقالات أراجعها لمجلة فصول، لأننى لن أعمل بها ثانية بعد إبعاد أستاذى الدكتور عز الدين إسماعيل.

ولم يكن هذا بإيعاز من الدكتور عز، الذى وافق مرحبا لمن أراد الاستمرار فى العمل بالمجلة، مثل المرحوم الدكتور عصام بهى.
بعد عشر سنوات كاملة كنت قد أسهمت خلالها فى إقامة المؤتمر الدولى الأول للنقد الأدبى مع دكتور عز.

وشرفت باختيار دكتور عبد القادر القط لى معاونا له فى تأسيس جائزة الشاعر محمد حسن فقى فى الشعر ونقده، وإعداد احتفاليتها الثقافية. جاء الدكتور عصفور فى دورتها الثانية لتسليم الجوائز نيابة عن وزير الثقافة، وقد كان وقتها أمينا عاما للمجلس الأعلى للثقافة، فرحبت به فى محبة بالغة كعادتى، (فخلاف العمل عندى لا يفسد للود قضية)، فمال على أذنى وقال: أيوه بتعمل الشغل ده هنا فى جايزة سعودية عشان بتقبض بالدولار. فقلت له: هو حد قال لى تعالى اعمله ببلاش عشان خاطر مصر، وقلت لا؟ فقال لى: خلاص، منتظرك تشرب معايا قهوة بكرة.


منذ هذه اللحظة، وتحديدا مع  مؤتمر (قضايا المصطلح النقدى) عام 1998، الذى رأس لجنته العلمية أستاذى الدكتور صلاح فضل واقترح مشاركتى فيها، وموافقة د. جابر على ذلك، بالتزامن مع دعوته الشخصية لى، بدأت علاقتى الشخصية الوطيدة بالدكتور جابر عصفور.


وقد كان الدكتور جابر لا تقلقه علاقتى الممتازة بالدكتور عز لأننى أعمل معه فى المجلس بالفعل، وكان الدكتور عز لا تقلقه علاقتى الممتازة بالدكتور جابر، بعد أن ناصرته فى مقاطعة استمرت عشر سنوات كاملة.

 

ولذلك كنت أحد القلائل الذين حظوا بعلاقة ممتازة مع الطرفين تصل إلى حد اعتبارى ابنا لكل منهما، وكنت واحدا من الكثيرين فى مصر والعالم العربى الذين فشلوا فى عقد مصالحة بينهما.


والاقتراب من جابر عصفور أمر مختلف، فهو صاحب البرج النارى المتوهج دائما، فمعه أنت فى قلب الحدث بكل لحظة، ومعه أنت متفاعل مع ما يحدث فى الساحة الثقافية العربية كلها، ومشارك فى صنعه أيضا.


فعلى المستوى العلمى نجح حفيد طه حسين فى أن يقف وقفته التأسيسية الاستراتيجية نفسها: قدم فى التراث العربى القديم، وأخرى فى التطور النقدى العالمى المعاصر. فصاحب (الصورة الفنية فى التراث النقدى والبلاغى)، هو مترجم كتاب رامان سلدن (النظرية الأدبية المعاصرة).


وقد ساعدت سمعة عصفور العلمية على أن تكون له مصداقية لدى مثقفى العالم العربى، وقد مكنته هذه المصداقية من إعادة جسور التواصل العربى مع مصر مرة أخرى، حيث يمكن للثقافة مع القيادات الواعية أن تصلح ما أفسدته السياسة.


وعلى الرغم من أن عصفور لم يكن يساريا منظما فى يوم ما؛ فإن ميوله اليسارية الواضحة، وعلاقته الطيبة بكبار اليساريين، قد مكنته من استقطاب بعضهم للتعاون مع وزارة الثقافة. كان عصفور لا يفعل هذا بوصفه رجل سلطة يسعى لتجنيدهم، بل بوصفه حفيدا لطه حسين الذى كان يرى أن الدولة لابد أن تكون داعمة لرسالة المثقف التنويرية حتى يكتب لها النجاح، وبوصفه مؤمنا بدور المثقف الفاعل، وبإمكان التغيير من الداخل دائما.


فعلى سبيل المثال لا الحصر فى واقعة مهاجمة محمد عباس لرواية حيدر حيدر (وليمة لأعشاب البحر) الصادرة عن قصور الثقافة عام 1999، وخروج مظاهرات ضدها من طلاب الأزهر فى 7 مايو 2000، أصيب فيها 3 ضباط و50 طالبا، استطاع جابر عصفور مواجهة التطرف بالثقافة مستعينا باليسار المصرى، وأعد المجلس تقريرا عن الرواية بمعرفة لجنة متخصصة من النقاد، تم الدفع به للمحكمة، وكان سببا فى تبرئة المتهمين.


وقد كانت هذه اللعبة الداخلية مع اليسار المصرى هى الأكثر خطورة، وقد بدأت باتهام (الحظيرة الثقافية)، وانتهت برفض صنع الله إبراهيم لاستلام جائزة الرواية بعد موافقته على الفوز بها. حيث يمثل هذا الموقف من وجهة نظرى، رسالة شديدة اللهجة لجابر عصفور تحديدا، بأنك لم تعد واحدا منا، وبأنه لا تحالفات معك بعد الآن.


وعلى الرغم من غرق جابر عصفور فى العمل العام حتى أذنيه؛ فإنه كان ـ كنجيب محفوظ فى الرواية ـ موظفا عند الكتابة النقدية يوقع فى دفتر حضورها اليومى بدأب وإصرار بالغين. وصحيح أن ما كتبه قبل انشغاله بالعمل العام كان أكثر قوة وتأثيرا، وأن ما كتبه بعد ذلك من كتب كان فى معظمه مقالات أعدت بخطة تجميعها، لكنه كان فى جميع الأحوال متابعا دقيقا لما يصدر فى الساحة العربية، ومشاركا برؤيته النقدية الثاقبة فى كل ما يدور.


أما شخصية جابر عصفور فهى شخصية جدلية، تدعوك للاختلاف معها أكثر مما تدعوك للاتفاق، وهو شخصيا كان يدعم هذا الاختلاف ويمنحه مساحة كبيرة من الحوار.

أما إذا وصل الأمر إلى درجة الخلاف فلا مهادنة للأبد، وإن بدا عكس ذلك أحيانا على السطح، ويحسب له أنه فى جميع الحالات كان صريحا فى محبته وفى كراهيته أيضا.

اقرأ ايضا | شهادة للراحل د. جابر عصفور