الشاعر منذر مصري: استدرت عائداً للرسم!

الشاعر منذر مصرى: استدرت عائداً للرسم!
الشاعر منذر مصرى: استدرت عائداً للرسم!

كنت قد اتفقت معه على أن أجري هذه المقابلة وقبل أن أنهي رسالتي إليه وردتنى رسالة كان فحواها: إنّ إحدى الجامعات الروسية قد وافقت على ضمي لطلابها الذين سيدرسون الماجستير في القانون، أنهيت حديثي معه، واتجهت للسفارة الروسية فى بغداد، كان منذر مصرى لا يفارق تفكيري، كيف سأعدّ له الأسئلة، ومتى؟ قريبًا سأسافر وأنشغل بحياة أخرى لا أعرفها، شمسها تشكو من ضياع الدفء، وكيف سأُوفّق بين حياتى هنا وهناك؟ سافرت هناك، وتأجلت حياةً بأكملها، لم يبقَ منها سوى القليل، رغم ذلك لم انسَ إنى قد وعدت منذر مصرى بحوار صحفى فوافق بمحبة عالية. تأخر الحوار لسنتين كاملتين، لكن الفكرة لم تتوقف ومازالت فى رأسي، وفور عودتى إلى العراق، أرسلت رسالة أطلب فيها إجراء المقابلة، مع رجائه أن يقبل اعتذاري. منذر مصرى الشاعر والفنان السوري، الذى أصرّ على أن يبقى فى اللاذقية رغم الحرب وقسوة الحياة فى سوريا، يسمع الموسيقى من داخل بيته، فهو مغرم بها. كان يصيّر أصوات الحرب إلى نوتات موسيقية، عبر قصائده ولوحاته الفنية، فهو يرسم الحياة كما يجب. 
  تأتينى القصائد خلال انكبابى على الرسم 
 لا شيء يعيق الرسم أو الشعر سوى سقم الروح
ما من أحد يعبر قصيدة محمد ماغوط إلا ويعلق به تأثيرات لغة الماغوط ومواضيعه

ذات يوم قاس من سنة  2019 شب حريق فى مرسمه الذى كان مساحة أمل لكل مثقف عابر للاذقية فراح ضحيته جزء كبير من لوحاته التشكيلية، ومكتبته الورقية التى ضمت مئات الكتب، وكذلك مكتبته الموسيقية، ماذا عسى منذر المغرم فى الموسيقى والشعر والتشكيل أن يفعل غير أن يبقى فى مدينته ويرفض مغادرة أرضه رغم تلك الحرائق الموجعة. منذر الشاعر الذى لم يدع شيئًا -وفق اعتقادي- إلا وقاله، يكتب ما يشبهه، يعبر ما لم يُعبر، يرسم قصيدته ويكتب لوحته. ها أنا أتذكر الآن أنّى قرأت حوارًا كان قد أجراه الشاعر اللبنانى عباس بيضون مع منذر مصرى قال فى مقدمته عنه ما يغنينا عن سرد مقدمة ربّما تقصر فى حقه: (نستغرب حين يقال إن منذر مصرى يعمل على شعره. نحسب أنه يتنفس شعراً وأنه ضيع الحدود بين الشعر

وبين النثر وبين حياته والشعر. سيظل هذا دأب قرّائه إلى أن يكتشفوا أن هذه هى لعبة المصري. إن التظاهر بأن الشعر مصادفة على الطريق فن بحد ذاته. وإن جنون المصرى بالشعر هو الذى يجعله ممكناً وقريباً الى هذا الحد. الشعر يربح على الحياة لكنه يتظاهر بأنه يقلدها. نظل نفكر بأن شعر منذر المصرى كثير بمقدار أنه لا يدرى دائماً أنه شعر. لكننا سنجد مفاجأة أكبر حين ننتبه متأخرين، لفرط ما خدعنا منذر. إلى أن ولاءه الوحيد هو للشعر وأنه يفعل كثيراً ليبدو لا مبالياً. سنجد مفاجأة أكبر حين نرى أن منذر وربما أكثر من كثيرين اشتغل على شعره وشعر غيره بدقة صائغ يتظاهر بأنه لاعب أكروبات


ولد الشاعر والفنان منذر مصرى فى اللاذقية بسوريا عام 1949. نشر أكثر من 20 كتابًا.
- كنت ترى أصدقاءك فى الثانوية يحملون معهم كتب نزار قبانى وغيره من الشعراء، فى حين كان الرسم شاغلك الأول، الذى صرت منه إلى الشعر فيما بعد، وحين جاء أحد إخوتك حاملًا معه «منزل الأقنان، والمعبد الغريق، لبدر شاكر السياب»، صار تماس بينك والكتابين، تماس القارئ بالكتاب، ومن تلك

اللحظة ولدت الخطوة الأولى نحو الشعر. هل الرسم يعيق مسير الشعر أم أنه بوابة واسعة من خلالها يدخل المرء عوالم أخرى كعالم الأدب مثلًا وهل العكس صحيح؟ 


ما زلت أحتفظ بمجموعتى منزل الأقنان والمعبد الغريق، اللتين أحضرها للبيت، ليس أنا بل أخى ماهر، لشاعرى المفضل بين شعراء رواد قصيدة التفعيلة، بدر شاكر السياب، إضافة لديوانه الأحب لى شكلاً ومحتوى: (شناشيل بن الجلبي) الصارد عن دار الطليعة /1964/،

وكذلك (أنشودة المطر)، فى طبعتها الثانية الصادرة عن دار مكتبة الحياة، على ما أذكر، وليس الطبعة الأولى التى صدرت عن دار مجلة شعر، للأسف. أين؟ بين مجموعات شعرية لا تحصى من الشعر القديم والحديث، نقلتها من مرسمي، بعد احتراقه، منذ سنتين، ووضعتها دون ترتيب، ودون مسح السخام عنها، لأن هذا شبه مستحيل، ضمن العديد من العلب الكرتونية. بانتظار الوقت الذى يسمح لى بإعادتها إلى أماكنها. 


رغم ما يقال، إنه، من غير الجيد، أن يوزع المبدع وقته وجهده وقدرته، بين أكثر من مجال واحد للفن، إلا أنه بالنسبة لي، الرسم لا يعيق الشعر، بل يدعمه ويساعده، خلال انكبابى على الرسم، تأتينى القصائد. كما حدث أنى كتبت أغلب قصائد (بشر وتواريخ وأمكنة) خلال رسمى لمعرضى الأول فى دمشق سنة 1976. وهذا ما جعل سعدى اليوسف يقول، فى كتابته عن (بشر وتواريخ وأمكنة) فى العدد /3/ من مجلة البديل: «.. وربما كان لمقدرته التشكيلية دور فى هذا الاعتبار، مكّن طموحه إلى الدقّة الشعرية من التحقّق عبر موازنة بين المرئى والمبصر». لا شيء يعيق الرسم أو الشعر سوى سقم الروح.
أنا لم أعبر الرسم أبداً. بالعكس جرجرته معى فى كل كتبي. ليس فقط كأغلفة كتبى وكتب أصدقائي، بل كقصائد ونصوص. مجموعتى الأخير، الصادرة عن دار الأدهم فى القاهرة (تجارب ناقصة) بالجزء الأكبر منها قصائد عن الرسم والرسامين. 

 


جَردلٌ منَ الضَوء
(طبيعةٌ ليليَّة) غيرُ موثَّقة /أدوارد مونش/ نسخةٌ مصورةٌ فى العيادةِ البوليَّة - مشفى جامعة (وارسو).

كيفَ لأُصبُعٍ أن يمُرَّ هُنا
على حدٍّ لا يُرى
بينَ الأشجارِ وظِلالِها
حيثُ تعبرُ الآنَ امرأةٌ
تحمِلُ جردلًا منَ الضَوءِ
إلى جزيرةٍ من العَتمة
تبدو وهيَ تنظرُ إلى وجهِها
على صفحةِ البُحيرة
كشَفتَينِ مُطبقتَين
لفمٍ أسود.


- تقول عن بداياتك: كنت أكتب قصائد ماغوطية، إن بداياتك الشعرية تدين لعدة أسماء كشوقى ابى شقرا وأنسى الحاج ولمحمد سيده، ثم تخليت عن النص الماغوطى فيما بعد، لكن ظلت آثار شوقى وأنسى الحاج وتوفيق الصائغ وهى المؤثرات الأساسية لشعرك - وفق وصفك لهم- لفترة طويلة، كيف يؤثر شاعر على آخر، و ما هو التأثير على النص وكيف يكون شكل النص المؤثر فيه؟ بينما يرى بعض النقاد أن التأثر يخل بسلامة النص وينتج شاعرًا مكررًا، ما رأيك أنت؟


يرى البعض الآخر من النقاد، أنه لا يوجد قصيدة، لوحة، رواية، مسرحية،  تخلو من تأثيرات الآخرين! الشعراء، وسواهم من المبدعين، من زاوية ما، يكررون المواضيع كما يكررون الصور والتشبيهات. كما أنى يوماً ذكرت أن ما من أحد يعبر قصيدة محمد ماغوط إلا ويعلق به تأثيرات لغة الماغوط ومواضيعه، بل ربما أيضاً، كما عرفت الكثيرين، مفرداته! بدوري، هذا صحيح أيضاً عني، وصحيح كذلك أنى خضعت لتأثيرات شوقى أبى شقرا وأنسى الحاج وتوفيق الصايغ، وجبرا ابراهيم جبرا، خاصة بقصيدته (رسالة إلى توفيق الصايغ).

ولا أظننى بكل هذا قد كررت أحدهم، ذلك أنى أتيت من الأغنيات! أقصد أننى أكثر ما تأثرت بنتاج كتبة الأغنيات الذين أحببتهم، بوب ديلان، ولينون ومكارتني، وكارول كينغ، وتوم هاردين، وسام كوك.. وسواهم، زاد عليهم ما انكببت على قراءته من الشعر المترجم. حتى إنه دار بخلدى أن لغة الترجمة هى اللغة التى يجب أن يكتب بها الشعر العربى الجديد! ولا أظن هناك شاعراً فى العالم، اعترف بتأثره بشعر من سبقه، وقام باقتباس أغلب صوره منهم، أكثر من ت. س. أليوت. هذا لم يمنع من اعتباره شاعر القرن العشرين!. 


- كتبت القصائد اليومية كثيرًا، وهى قصائد محببة لديك، هل تؤمن بأن القصائد اليومية لها كلّ الحظ من اسمها، وأنها لا تستطيع أن تعبر الزمن، بمعنى لا تتجاوز اليوم، أم ترى أنها سُميت هكذا فقط دون أن ترتبط فى اليوم العابر؟ 


عنوان مجموعة رياض الصالح الحسين الثانية: (أساطير يومية). ربما يجيب عن هذا السؤال. الأدب والفن، الإبداع كله يقوم على ثنائية: العابر والباقي، الطارئ والمؤبد، الحقيقى والوهم. أكتب قصائد يومية وأكتب قصائد ذهنية، أكتب عن أمور صغيرة، ربما تافهة، وأكتب عن الحب، والحرب، والموت، والخلود! وفى مقابل تردادنا لعبارة: «كل شيء يمضي» هناك من يصحح لنا: «اللحظة العابرة هى قلب الأبدية» النص الذى يبقى الصالح للقراءة، هو النص الذى يبقيه شيء فيه حياً. مع أنى كنت سابقاً أجيب: « النص الذى يبقى صالحاً للقراءة هو النص المكتوب جيداً» ولكن ترى، ماذا تعنى جملة: «مكتوب جيداً؟».

 

- فى كتابك دعوة خاصة للجميع، هو عبارة عن قصائد مهداة للأصدقاء، كلّ قصيدة فيه مهداة للصديق ما، لم خصصتهم بمجموعة شعرية، أهى المغايرة الأدبية أم سلطة الصداقة التى أخذت منك ما لم تأخذه من غيرك من الشعراء؟ 

خطرت لى هذه العبارة، عندما كنت أعد بطاقة الدعوة لمعرضى التشكيلى الثانى أو الثالث. ورغم أنها تبدو قائمة على مفارقة لغوية، فقد كنت حقيقة أشعر بها وأعنيها، أى أن الجميع يستحق دعوة خاصة. ولكن بعدها أضفت على العنوان وجهه الثاني، وهو: «دعوة عامة لشخص واحد» الذى بدا أكثر شاعرية، بينما الوجه الأول أيديولوجى لحد ما. فى مقدمة مجموعتى هذه، أشرت إلى أن الكثيرين يعارضون فكرة إهداء القصائد لآخرين. ويجدون فيها ابتذالا ما.

ولكنى بإهدائى لكل قصائد المجموعة، جعلت من هذا نظاماً تقوم عليها التجربة برمتها! وأخيراً.. نعم للصداقة سلطة قاسية، إن لم أقل، جائرة علي! فقد آمنت ولفترة طويلة من حياتي، أن الصداقة هى وطني! إلى أن غادر أغلب أصدقائى سوريا، وغدوت أبحث بين من بقوا عن وطنى الجديد. 


-هل الآمال -حقًا- شاقة، هل أشقّتك آمالك حتى أوحت لك بأن سمى مجموعتك الشعرية الأولى: (آمال شاقة)؟ وهل تعتقد أن كتابك (داكن) وقصيدة (ساقا الشهوة) التى حكم عليهن بالإعدام والمنع من النشر كانتا بعض أمالك الشاقة؟ حدثنا عن آمالك الشعرية ولم تناولت هذا العنوان الفلسفى الشاق؟


كل الآمال شاقة، ليست آمالى فحسب. ذلك لأن كل أمل، عموماً، يقتضى أن تعمل لأجل تحقيقه، فما بالك ببلاد شغلها الشاغل تحطيم آمال أبنائها! أما بالنسبة لمصاعبى فى نشر شعري، فحدث ولا حرج، نشرت أعمالى الشعرية دون مراعاة أى تسلسل زمني، أغلب قصائد مجموعتى الأخيرة (تجارب ناقصة) الصادرة عام /2000/ مكتوب فى بداية الثمانينيات.

وقبلها (بولونيزات) كتبتها فى بولونيا خلال اتباعى لدورة فى التخطيط الإقليمى فى وارسو! والواقع أن هذا العنوان يأتى فى مواجهة فكرة أن اليأس هو الشاق. فأحببت أن أرى الأمر من زاوية أخرى مخالفة. على فكرة، اختارت الدار التى أصدرت ترجمة أختى مرام لمنتخبات من شعرى إلى الفرنسية العنوان التالي: (اليأس سهل للغاية). وذلك من كونه استسلاماً. 


- هل ثمة علاقة بين الشعر والرسم وبين منذر مصرى كشاعر من جهة وبينه كرسام من جهة اخرى؟


بالتأكيد، هناك علاقة صريحة. منذر الشاعر ومنذر الرسام ليسا شخصين مختلفين، وإن راق لى القول، أو ربما الإحساس، إنهما شخصان مختلفان، متنافسان، يزاحم الواحد منهما الآخر فى كل شيء.


- كيف يتعامل منذر مصرى - نقدًا- مع منذر مصرى شاعرًا وكاتبًا كيف يُخضعه للنقد، هل ثمة ركائز يرتكز عليها نصك الشعرى وكيف ينمو ويتغذى؟


يعرف من يعرفني، أو يعرف جيداً من يعرفنى جيداً، تشددى وتضييقى على نفسى فى الكتابة! وهذا عكس ما تبدو عليه تجربتى عموماً، أذكر أن أحدهم كتب عنى مرة، أن منذر يكتب وكأنه شخص نعسان يكش ذبابة! غير أن ذلك بالتأكيد تعوزه الصحة كلياً. ككاتب للشعر وكقارئ له، أعامل كل شيء فيه، الصورة، الكلمة، النبرة، المعنى، أحرف الوصل.. بحرص شديد. وهذا، برأيي، لا يشكل تناقضاً على الإطلاق، ذلك أن العفوية التى تترقرق (أول كلمة شاعرية أستخدمها فى هذه المقابلة!) على سطح كتابتي، ما هى إلا نتاج، الإعادة، والتعديل، والإضافة والحذف.. حتى يختفى كل افتعال ظاهر! 


-  ما رأيك بالشّعر الجديد فى العالم العربيّ؟ وإلى أيّ مدى تجد اختلافًا بين أبناء الجيل الجديد وأبناء جيلك؟


لدى انطباع جيد بالتأكيد، ولدى تثمين عال لأسماء كثيرة، منها المعروف والمتداول ومنها من يقبع فى الظلال، كما هو الحال دائماً. وغالباً ما يتولد لدى شعور بالغبطة والاحتفاء عند قراءتى للمجموعات الجديدة، للشعراء العرب، من جيلى ومن سواه، ولن أنسى أصدقائى الشعراء الأكراد الذين، كدأبهم أبداً، وجدوا لإغناء الفضاء العربى فى كل مجال، أما عن اختلاف جيلى عن الأجيال اللاحقة، فأظن أكثر مظاهره خشونة، يتبدى فى كون شعراء جيلى صاروا على قائمة الموت سيد الظلام والصمت والعدم،

 

و... النسيان. بينما يتنعم الآخرون ويرتعون فى وهم الأبدية. وقد يشمل هذا التقادم، أستدرك، ما يسمى القضايا الكبرى، فرغم أنه صحيح أن تجربة جيل السبعينيات، قامت على أنقاض تجربة جيل الستينيات الأيدلوجي. إلا أنها لم تتخل عن رغبتها فى لعب دور ما فى الشؤون العامة. نحن جيل كان يعتقد أن كلمة ثورة، هى الكلمة المثلى لتكون خاتمة كل القصائد! 


- مشكلة الإيقاع الداخلى لقصيدة النثر لم تحل حتى الآن، هناك خلافات كثيرة على هذا المصطلح، هل يمكن أن يقنن الإيقاع الداخلي، وكيف تعرّفه للقارئ؟


لا مشكلة لى مع مصطلح الإيقاع على أى نحو يكون، فأنا ممن أداروا له ظهورهم كاملة. وعندما أكتشف أن الكلام يأخذنى إلى إيقاع ما، يكون همى تكسيره ما أمكنني. أعتمد فى كتابة شعري، أو الأصح عند قراءته خلال كتابته، أقصد عند قراءتى للنص وأنا أكتبه. على ما يمكن تسميته بالنبرة. يحددها طول الجملة وكذلك تصريف الكلمات. فمثلا، كما ذكرت لأدونيس البارحة! نعم، رغم خلافى السياسى معه، علماً بأن كلانا غير سياسيين،

ورغم كتابتى لمقالة (وقت بين الرماد وحديقة قصر الماء فى (سيت) ولماذا لا يفوز أدونيس بجائزة نوبل) سنة /2010/ والذى ترجم للفرنسية ونشر بمجلة الحركة الشعرية، فأنا على تواصل يكاد يكون يومياً معه، وفضل ذلك، أعترف، يعود له. منذ ما يقارب السنة، أثناء مرض زوجتى الشديد بالكورونا، جاءنى اتصال على الواتس آب من رقم فرنسي: «منذر.. أنا أدونيس، أخذت رقمك من مرام، كيف حال زوجتك؟ كيف حالكم؟» أننى لم أستطيع حفظ عنوان مجموعته (موسم التحولات والهجرة بين أقاليم النهار والليل) إلا بتبديل مواقع كلماته كما يلي: (موسم الهجرة التحولات بين أقاليم الليل والنهار) وذلك، إذا رغبت بإيجاد السبب، رغم أن الأمر هو إحساس بوقع الكلمات، فى أن كلمتى التحولات والنهار لوجود الألف قبل نهاية كل منهما تجعلهما قابلتين للمد. وأن المد أجمل لفظاً، أجمل وقعاً، من القطع فى نهاية الجمل!؟ ولكن، حقيقة لا أعرف جواب ما إذا كان هذا مجرد إحساس شخصى أم موضوعي؟ 

- بعد أن تنازل الشعر عن الوزن والقافية وموضوعاته الكلاسيكية، هل لك أن تعرفه بوصفه شعرًا حديثًا؟
تراكم لدي، مع العمر، تعاريف شخصية كثيرة للشعر! مثل: (الشعر توثيق دقيق للأكاذيب)! و (أنه يعتبر صرير الأبواب موسيقى، وضجة الشارع فى الصباح والظهر والمساء سوناتة موسيقية من ثلاث حركات، فما بالك ما يعتره شعراً)، و(الشعر معنى عالم لا معنى له)! وأخيراً وليس آخراً (عملى كشاعر تحويل قشور البصل إلى قصائد). وقد لا ترى فى هذه كلها، ما يمكن اعتباره تعريفاً فنياً من النوع الذى طلبت. ذلك أن بالحقيقة بت لا أكاد أفرق بين الشعر والنثر فى شيء. وكأن شعاري: (النثر أفضل طريقة لكتابة الشعر) صارت على يدى ويد أمثالي، من المدسوسين على الشعر: ( النثر هو الشعر)! ويمكن أن تعتبر القسم الأخير من مجموعتى (تجارب ناقصة): (الحياة العاطفية البائسة لأساطين الموسيقى) خير دليل على هذا.


- أنت من مؤسّسى اللجنة الثقافيّة لنادى سينما اللاذقيّة ورئيسُها، من عام تأسيسه إلى عام إغلاقه. وهى أهمّ تظاهرة ثقافيّة أهليّة فى نهاية السبعينيّات وبداية الثمانينيّات، ترى هل ثمة رابط بين ما تكتب وما تشاهد؟ هل للسينما والموسيقى أثر يمكن للقارئ تتبعه على كتاباتك، وهل ثمة شراكة بين المشاهدة السينمائية والقراءة، بمعنى هل تشترك السينما مع الشعر بعامل ما؟


رافقنى حبى للسينما من طفولتي، أحسى أنى أخذته عن أبي، فقط كان مولعاً بكثير من ممثلاتها! وقد أتاح لى عمله فى سلك الأمن العام فى أربعينيات والنصف الأول من خمسينيات القرن الماضى ، دخول كل صالات السينما فى اللاذقية مجاناً. كنت أذكر لمحمد سيدة الأفلام التى شاهدتها بصحبة أبى وأمى بداية، ووحدى لاحقاً، فى سينما الشرق فى حى القلعة، فيستنتج: «يا أخي، أنت بالتأكيد أكبر من عمرك! لا يمكن أن تكون قد شاهدت هذا الفيلم وأنت لم تبلغ وقتها الخامسة!» 

 


- فى مجموعتك «منذر مصرى و شركاؤه» أعدت كتابة العديد من القصائد لستة وستين شاعراً أكثرهم من سورية على طريقتك الخاصة، إن صح القول هل هى نوع من التدريب على الكتابة، أو أنه نوع جديد من الشعر؟ فى رأيك لماذا لم يتقبل الشارع الأدبى السورى هذا النوع من الأدب، ولم كثرت الأصوات ضده؟


ما لفتنى أنه كانت هناك أصوات، هامة، وليست قليلة معه، وشعراء كثيرون سروا به. ليس قليلاً ما كتب عنه فراس سعد ولا شهادة فادى عزام، ومحمد حموي. (منذر مصرى وشركاه) أحد أهم وأجمل كتبي. واسمح لنفسي، بما أنه ليس كتابى وحدي، أن أقول إنه الأجمل على الإطلاق. وكنت أتمنى أن أعيد التجربة وأعمل على مزيد من الشعراء السوريين الجدد، وكذلك مع الشعراء العرب. ولكن.. ما عاد لدى وقت سوى لى ولشعري، فما بالك بشعر الآخرين. ملاحظة: أحببت تعبيرك الشارع الأدبي، يا ليت لدينا شارع أدبي، فأنا، كإنسان ولدت وعشت فى مدينة كاللاذقية، أحب وأحترم كل أنواع الشوارع، حتى طرق الأزقة. 


- حقل الفخاري، كتاب مسرحي، يضم أربع مسرحيات قصيرة، منها اثنتان تتحدثان عن الحياة السورية والسوريين، هل لك أن تحدثنا لم اخترت للفخار أن يكون حقلًا، لم وسمتها بحقل الفخار؟

وما مدى انعكاس الحرب على هذا الكتاب؟ حدثنا عن تجربتك المسرحية، وعن هذا التنقل الرشيق بين الشعر والرسم والمسرح؟ 


هى عبارة مشهورة وردت فى الأناجيل الأربعة! وهو عقار يعود ملكه لصانع أوان فخارية ابتاعه يهود المجمع بمبلغ الثلاثين فضية التى سبق وأعطوها ليهوذا ثمناً لوشايته بالمسيح، ثم أعادها لهم كاملة بعد ندمه الشديد، فلم يرجعوها خزنة المجمع، لأنها، قالوا، ثمن دم. وجعلوا منه مقبرة للغرباء. ويقال أيضاً إن يهوذا شنق نفسه على شجرة فيها، واندلقت على أرضها أحشاؤه، لذا سموها، أرض الدم. وقد لا تنعكس الحرب ذاتها فى المشهديات الأربع إلا أن الحالة التى كانت عليها سوريا، وما زالت، ولكن على نحو أشد كارثية، فإذا كانت مشهدية (حقل الفخاري) تدور حول الأمن والوشاية، فليس خافياً ما تذهى إليه الثالثة (كم صرصوراً يحق لك أن تقتل؟)  وفى (الغرفة 106) يجرى الحوار بشكل مباشر عن الحدث السورى وتفاسيره! إلا أنه أعترف لليوم لم أستطع الكتابة بشكل جوهرى عما حدث. ولا حتى من زاويتى الشخصية، أقصد ما حدث معى بالذات. وأخشى أننى سأموت قبل أن أفعل! 


- هل على الشاعر أن يكون بطيئًا فى مراجعة نصه أو كتابه قبل أن يدفعه للطبع؟ وهل تعيد كتابة نصكَ مرة أخرى، هل تحذف وتضيف، انّه أم يولد مرة واحدة دون عمليات جراحية لتجميله بعد ولادته؟


أفعل ما يحلو لي، لا أجد مانعاً من القيام بأى شيء يحسن القصيدة ويجعلنى راضياً عنها أكثر. ولكن ذلك يحدث مع الأخذ باعتبارات متنوعة. ذلك أنى أحاول أن يكون التعديل أو الإضافة ما أمكن ضمن سياق العمل، وبالأسلوب ذاته والأدوات التى كتبت بها العمل الأصلي. غير إن هذا يحصل عادة فى النصوص التى أشعر بأنى لست راضياً كفاية عنها! النصوص التى أشعر أنها غير مستقرة، أرجو هنا الانتباه، إلى أنى قلت لست راضيا كفاية عنها ولم أقل راضياً تماما عنها! أغلب قصائدي، القديمة التى أنشرها بعد أربعين سنة من كتابتها، فيستغرب الآخرون من تصالحى الشديد معها.

 

والجديدة التى يغلب عليها طابع التجريب! أجدنى أقوم بإعادة كتابتها بتغيرات بالكاد تلاحظ، أحياناً، وبتغيرات كبيرة أحياناً أخرى. نعم أصدق، أن القصيدة قابلة للتحسين، الأمر المختلف مع اللوحة. يسهل فى الكتابة الحذف والتعديل والإضافة ثم العودة لما كانت إليه، بينما يصعب هذا، أو حتى يستحيل فى الرسم. المواد نفسها لا تسمح.


- أنت تنصب فخاً للقارئ حين تتحدث عن نفسك فى ( الشاى ليس بطيئًا)، يظن أنه أمام كاتب لا يقيم لغير العبث اعتبارا و لكن ثمة اعتداد خفى و إصرار متدفق يبدأ بالتصاعد معبراً عن وعى بالتجربة، ألا تتفق معى أنك تجلد ذاتك بطريقة ذكية؟


«أنت تقول» هذا ما أجاب به السيد المسيح على سؤال بيلاطسّ! واسمح لى ألا أقول لك السؤال. لأنه يجب أن تعرفه. ورغم أن هذا يكاد أن يكون حكماً معمما على طريقة كتابتي، ولكن تعبير فكرة جلد الذات، حقيقة جديدة! ذكرنى هذا بملاحظة أبداها لى صديقى الفنان التشكيلى نزار صابور عن إحدى المجموعات من رسومي: «أنت تتعب نفسك». كما أن صفة ذكية أيضاً نادراً ما توصف بها كتابتي.

وأرجو ألا يوحى هذا بأنى شديد الحيلة! فكما يقال: «ليس بالحيلة تحصل على السعادة»، فإنه ليس بالحيلة تكتب وترسم جيداً! 
- هل ثمة فرق فى بداية التجربة والاقتراب من نهايتها، هل أُزيح الأمل وصار وهمًا؟
- اسمح لى بالرد بواسطة قصيدة من (بشر وتواريخ وأمكنة):
تلك الأوهام لا تموت
ها هوَ فجرُ جَبينى يطلَعُ على ليلِ شَعري
بعدَ الثلاثين سأُغطِّى رأسيَ الصغيرَ بقُبَّعة
ولن أدعَ الناسَ يُحدِّقونَ طويلًا بصَلعتي
سأُلهيهِم بعينَيَّ وفمي.
بِهذَينِ الشارِبَين فالشَوارِبُ خالدة
سأبتسِم
فمى كبيرٌ وأنا فخورٌ بهِ
وابتِسامتى - يقولون - ساحِرة.
أشياءُ كثيرةٌ تافِهةٌ سأقومُ بِها
وأشياءُ كثيرةٌ عظيمةٌ سأتقاعسُ عنها
سأغفو هكذا على مقعدي
أصابعى مغموسةٌ بالألوان
وتَحتَ جَفنَى سيركُ الذِكريات.
سَيبقى هُناكَ مَن يَحلُمُ بي
وأنا أنظُرُ بِهذهِ الطريقة
وأتكلَمُ على هذا النَحو
تلكَ الأوهامُ لا تموت.
- هل نضب ينبوع الكتابة أم إنّه مازال ذاته وأن الفن لا يفارق صاحبه حتى آخر رمق فى حياته؟ هل لاحظت هذا على ما أنتجت وقدمت من أعمال شعرية وفنية ومسرحية؟


سؤال خطير حقاً. جوابى الصادق عليه: لا أعرف! ما زلت أكتب ولكن ما عاد الشعر هو ما أنام وأستيقظ وآكل وأشرب، وأحب وأكره! تأتينى أفكار قصائد، وعبارات تصلح لأن أجلس وأكتبها. ولكنى غالباً لا أفعل. أقول، حسناً، غداً أفعل! يأتى الغد ولا أجد المزاج! ما يحصل هو أنى استدرت عائداً للرسم! أو بتعبير أدق، عدت للتركيز على الرسم! لأنى يوماً لم أهجر الرسم كلياً، رسمت فى السنتين الماضيتين عددا كبيرا من الرسوم، منها ربما أفضل ما رسمت فى حياتي! ومنذ أيام أقمت فى مرسمى عرضاً للباقى من لوحات الأشجار التى رسمتها فى بداية الثمانينيات، أى منذ /50/ سنة!َ؟ بعنوان (شجرة واحدة تكفيني) بيع القسم ألأعظم من لوحاته! هذا ما يحدث لأول مرة فى حياتي! البعض فسر هذا تفسيراً خبيثاً، بأن السعر الموحد الذى حددته للوحة كان بخساً!؟ 


- بعد الربيع العربي، هل فقد الشعراء مكانتهم أم أنهم نالوا مكانة أكبر، هل خسر منذر مصرى مكانته كشاعر ورسام؟


نعم، الشعراء الذين كان لهم مكانة ما، خسروا شيئاً منها. وبعضهم خسرها كلها، وفى المقابل هناك شعراء لم يكن لهم مكانة على الإطلاق، ربحوا شيئاً من المكانة، وبعضهم تصدر ونال جوائز عالمية، وترجمت منتخبات من قصائده إلى عدة لغات، وليس لديه سوى مجموعة واحدة!. بالنسبة لي، لدى شعور سيء، أو ربما جيد، لا أدري، هو أنى من الفرقة الخاسرة. وذلك لأسباب عدة، أولها أنى أبطلت عادة إن أحيا على الشعر، لا أعمل سوى الشعر، ولا آكل ولا أشرب إلا الشعر! وثانيها، شيء فى داخلي، دفعنى لأشارك الآخرين خسائرهم الكبيرة، وأحسب أنى لم أقصر فى هذا، فإنه كما تعلم، زمن الخسائر: «مضى مضى، الزمن الذى كانوا يقولون لي: منذر.. أنت قلبنا».

 


- من وجهة نظرك، ما معنى نشر الأعمال الكاملة، هل هو مركب أخير يستقله الكاتب، هل هى آخر الرحلات؟ ما الذى يريده الأديب من نشر أعماله الأدبية، وهل فكرت أن تنشر إعمالك الكاملة؟


مرة أخرى، أهذا السؤال أم ثلاثة فى واحد!؟ السؤال الأول: حقيقة، لم أفكر فى معنى نشر الأعمال الكاملة سابقاً، سوى أن أغلب الشعراء المعروفين، أو لأقل، المكرسين، لديهم أعمال شعرية كاملة، وأن هذا، إجابة للسؤال الثاني، الطريقة الأفضل للحفاظ على أى تجربة شعرية. يخطر لى الآن، واقعة جمع القرآن من صحائف كثيرة، وجد المسلمون أنه من الضرورة جمعها وترتيبها، رغم أن الله جل جلاله قد تعهد بحفظه: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). ربما السؤال الأصعب بما يتعلق بهذا الموضوع، فيما إذا كان من المفترض أن يحرص الشاعر على جمع أعماله الكاملة وإصدارها فى حياته، أم يدع للآخرين أن يفعلوا ذلك، بعد رحيله. عندها ينعدم احتمال صدور أعمال إضافية جديدة غير واردة فى الأعمال الكاملة. الأمر الذى حصل مرارا لشعراء كثيرين أعرفهم. وثالثاً ما إذا فكرت فى أن أنشر أعمالى الكاملة؟ نعم، فعلت، منذ مدة، وتقريباً جهزتها للطبع، وذلك لأن صديقاً صاحب دار نشر عربية، سبق وأصدر لى مجموعة شعرية،  أرسل لى رسالة يقول بها إنه يقرأ (الشاى ليس بطيئاً) وأنه يعتز بصداقتي، وسيكون فخوراً لو ينشر لى أعمالى الشعرية الكاملة، طبعاً وافقت مسروراً، وأرسلت له ملفات /12/ مجموعة شعرية، مستثنياً (ساقا الشهوة) و(بولونيزات) لأسباب لا تخفى على أحد.. إلا أنه حدث ما أوقف الدار وقتها، ثم عندما عادت لنشاطها، وعادت تصدر الكتب، لم يعاود لفتح الموضوع معي! إذن أعمالى الكاملة جاهزة وتنتظر، كما حصل دائماً، أن يتصل بى صاحب دار نشر، وعلى الأغلب، يكون شاعراً سابقاً، ويعرض على شيئاً كهذا! 

 

أقرا ايضا | محــمد بغــدادي يكتب: الخط العربي على القائمة للتراث الإنساني باليونسكو