بقلم/ يسري الفخراني
ديسمبر، أمى كانت تُتم آخر غُرزة فى شال الشتاء الصوف الذى بدأته فى يناير، سنة مُحمّلة بالأمانى فى اكتمال شال الشتاء الطويل منسوج بصبر ومحبة، مُحمّل برائحة المِسك والحبهان، ديسمبر تصعد إلى السندرة بصفائح مخلل الليمون وتفتح صفائح مخلل اللفت والبنجر.. مبهج ديسمبر رغم الوداع، رغم نبوءات العرافين التى كنت أقصها من مجلة الموعد، رغم ارتداء ميكى ملابس ثقيلة وهو يتزحلق على الثلج، رغم مدفأة بطوط المعطلة تحت كرسيه المفضل. .
لكن هناك دائما شال أمى الصوف دافء وسارح حين يكتمل ورائحة فطيرة التفاح التى أشمها من ورق مجلة ميكى عندما تخبزها الجدة بطة.. ديسمبر وقت كتابة الأمنيات على ورق ملون ووضعها فى صندوق مُغلق لكى تُصنع على مهل، شهر الأحلام ولو لم نُحققها، نشتهيها نتخيلها نرسمها، ديسمبر أيام الاحتفال بأننا على قيد الحياة، بأننا حاربنا أحد عشر شهرا فى طريق صعب من الورد والأشواك لكى نصل ونبقى، الانتصار ذاته يستحق احتفالا بأشجار نُعلّق عليها زينة مفرحة.. دفتر العام يُفتح فى ديسمبر ليقرأ، نحسب الخسائر ونعد المكاسب والأرباح، دفتر ما أصبح ذكرياتنا، دفتر يؤكد لنا كم نحن أقوياء ومحظوظين بكل يوم من عُمرنا كان هناك.. ديسمبر يا صديقى يستحق بعض الوقت لكى نتخلص من الكراكيب التى تراكمت فى حياتنا، أشياء انتهت نحملها وتُثقلنا، وأفكار عتيقة ماتت ومازلنا نتصور أنها تصلح لقبلة ونزوة وقرار..
كُنا فى الإسكندرية ليلة رأس السنة، الساعة ١٢ نُلقى من البلكونة زجاجة قديمة، فى طفولتى لم أعرف ما هو السبب؟ ولا ما معنى أن نرمى شيئا قديما إلا أنه احتفال بنهاية وبداية عام، حتى قالت لى جارتنا اليونانية ذات الشعر الفضى إننا فى الحقيقة نتخيل أننا نحبس خيباتنا وأيامنا التعيسة وأحلامنا البائسة وأفكارنا البالية فى زجاجة ونتخلص منها لكى نكون ألطف وأخف وأجمل فى رحلة سنة جديدة.. كم هو خيال رائع أن نحبس الأشياء البالية من عُمرنا فى زجاجة وتلقيها بعيدا عن حياتنا، لكى نمنح أنفسنا مساحة جديدة للأفكار، صفاء نفس ونقاء روح وخفة فى رحلة طويلة الأصل فيها أن نكون سعداء..
تخلص من التعاسة مهما كان الثمن، تخلص من البلادة والحزن والخوف والتردد واحذف ما فى صندوق المهملات، لا تجعل ديسمبر يمر إلا وأنت تُحلق فى السماء، لا تجعله يمر إلا وقد عدت طفلا قادرا على البدايات الجديدة والأحلام الحلوة والتفرد بشقاوة الأطفال.. ازرع فى ديسمبر شجرة وزهورا، اشتر أقلاما ملونة لكى تكتب أحلامك الحلوة، اقتن ألوانًا ولوحة وارسم، عُد إلى أمانيك الصغيرة واشته كرة الثلج فى مجلة ميكى ورائحة فطيرة التفاح من يد الجدة بطة ومقعد بطوط الأثير تحت المدفأة.. ديسمبر يمنحك فرصة لتحلم.. احلم، طاقة للخيال.. تخيل، مساحة للتسامح.. سامح، نافذة زجاج يلاطفها الشتاء وطعم قوى للقهوة وأغان كثيرة وأفلام تحتمى بها ذكرياتك.. ديسمبر، أحب ديسمبر، نهايات الأعوام تُشبه الشهر التاسع حين تنتظر السيدات إنجاب أطفالهن، مُرهق الشهر التاسع.. لكنه بداية الأمل.. لا تتركوا ديسمبر دون اقتفاء أثر البهجة فى جرس فضى مُعلق على شجرة، فى حصان يجر عربة بابا نويل إلى مصنع هداياه.. اسعَدّوا وأسعدوا كل من معكم.
عام سعيد.
