قضية ورأى

«النوستالجيون» يمتنعون

د. أحمد عفيفى
د. أحمد عفيفى

إحساس مرهف غامض.. تكسوه الرقة والدقة وتعلوه اللهفة والألفة..»الحنين الى الماضى» والتفتيش فى جماله وذكرياته، وعقد المقارنات الظالمة/العادلة بينه وبين»الحاضر» وربما «المستقبل» أيضاً. إنه»النوستالجيا» المصطلح اليونانى الذى يصف هذه الأحاسيس وتلك المشاعر. لقد غزت هذه الحالة كل القطاعات وعمّت كافة الأنشطة الإنسانية، وباتت التكئة التى يستند إليها هؤلاء»النوستالجيون»عشاق الزمان فى كف يد التطوير والتغيير والتعمير. إنهم يتحصنون خلف أوهام تفندها «الأرقام» ويؤكدها «البيان» ويبددها «البرهان».

«الفن» كان جميلاً..«المعاملة» كانت حسنة..«الأخلاق» كانت راقية.. «الهدوء» كان سائداً.. «الجدية» كانت شائعة ..»المرور» كان إنسيابيا.. «الازدحام» كان منعدماً..»السلوك» كان منضبطاً..«الحياة» كلها كانت أرخص، إلى آخر تلك السلسلة اللامنتهية حتى وصل الأمر الى «العلم» ذاته و«التعليم» بالضرورة،»فالبحث العلمى» كان أعمق و«التعليم» كان أفضل!.


لا أظن أن»النوستالجيا»تعكس أية معايير قياسية أو ضوابط موضوعية أو قواعد حقيقية، ولكنها قامت على أساس وحيد هو»العاطفة» فقط التى يستحيل قياسها وتطبيق الحسابات الدقيقة والمعادلات الخوارزمية عليها تحقيقاً للمصداقية والموثوقية. ومن ثم علينا النظر بعين الشك والريبة لهؤلاء»النوستالجيين» ولا نحمّل أحكامهم مؤنة الصدق والحقيقة، فهم يتقدمون إلى الخلف ويتقهقرون إلى الأمام ويجعلون «الماضى» من صناعتنا.. أما «الحاضر» فهو ليس منا.. «والمستقبل» ليس لنا.. ولا نحن له!!..


الجامعات صروح للمسكونين بحب «العلم» وللمتيمين بشغف «المعرفة». إنها مؤسسات تجعلك دائماً تتطلع إلى العلم وتمنعك أن تهرب منه. على هذه القاعدة شيدت الجامعات الكبرى تاريخها وبنت سمعتها. وعندما نتفحص ما يحدث اليوم، نجد أن تلك القاعدة قد أُهدرت وولى زمانها. فقد ملأ «النوستالجيون» الجامعات وصاروا يكسبون أرضاً جديدة يوما بعد يوم وأخذوا يباشرون سعيهم للحد من النظر إلى المستقبل الذى يستلهم «الماضى» ويصنعه «الحاضر». يريدون أن يتوقف الزمن عن الدوران ويظل مؤشر التاريخ متجمداً بلا حراك عند «لحظة» ما يصر كل»منهم» عليها.. يقدرها ويمجدها طالباً ممن حوله -خاصة الأجيال الشابة الواعدة- إيلاءها الاهتمام والاحترام، الأمر الذى يعوق خطط النمو والتطوير.


لنعترف معاً أن»النوستالجيين» يمتلكون ثقافة شرعية أفرزتها منظومة التنشئة والتربية والتعليم التى لا تقوم أصلاً على إنصاف الابتكار والحرص على طاقات الإبداع وهى الركائز التى تحرك «الحاضر» صوب «المستقبل». إن اجترارالذكريات الشخصية يجب ألا ينسحب على الأمور العامة ولا يتجاوز حاجز الزمن الذى انقضى. لا أحد ينكرها على أحد شريطة ألا تخرج عن الحيز الشخصى منعاً من أن تشل الحركة وتضع العصا فى العجلة.


إن بعث أوراق الماضى و استدعاء ملفات الأمس البعيد بغية تمييزها وتفضيلها عما عداها سيعوق تدشين «الجمهورية الجديدة» المعانقة للمستقبل والمحلقة فى سماواته والتى ستقوم حتماً على دعائم «خطاب علمى ومؤسسى» جديد تماماً يتسم بأنماط مستحدثة للتعليم و أساليب مبتكرة للتربية والتنشئة ونظم مستقبلية للعلم والمعرفة والبحث العلمى. وحتى تستمر جذوة الإبداع متقدة، ينبغى أن يكون نداء «النوستالجيون يمتنعون» أول إشهارات «الجمهورية الوليدة».
 استاذ بعلوم القاهرة