أمنية

حكاية عاشقين

محمد سعد
محمد سعد

أشرقتْ الأرض بنور ربها وبعثتْ بضيائها فى الأرجاء، ظل هو ينتظر حتى تنقضى ساعات النهار ليلقاها عند الغروب، وبمجرد رؤيتها ضمَّها إلى صدره وأخذ يتطلَّع إلى عينيها ويتأمَّل فى محياها الملائكى ويُطيل النظر إليها كأنه لم يرها منذ زمنٍ بعيد، أو أنها اختفت منذ سنوات، أمَّا هى فتعلَّقت بين ذراعيه ورفضت الخروج من أحضانه، معلنةً استسلامها للحُب.
همس إليها يسألها عن الوجهة التى خططت أن يقضيا فيها الساعات القادمة، طلبت أن يرحلا مُترجِّلين بين الطرقات والأزقة ترى الناس بعيونه، وتتنفس رئتها هواء ديسمبر، أبلغها بأنه يخشى عليها لسعة برد الشتاء، فطمأنته بأنها ملتحفةٌ بحرارة حُبه لها وضمتها إلى صدرهِ، وافقها على مضضٍ، نظرتْ إليه باسمةً، وبادرته إنك رفيق عمرى وعزى وعزوتى وعصاى التى أتوكأ عليها حين تخور قواى.
شجَّعته كلمتها أن يضمها أكثر إليه، وشرعا فى التريض بين الطرقات حتى دلف بها إلى ممشى الحى الهادئ، ورغم طوله إلا أنهما لم يشعرا بأى إجهادٍ ولا بطول الوقت، حتى وصلا إلى نهاية الطريق، فعرض عليها أن يأخذا قسطاً من الراحة واحتساء القهوة، وافقت على الفور، فقد اجتازا طريقاً طويلاً، وأنساهما «الحُب» المسافة والزمن ومشقة الترحال.
داخل المقهى انزويا فى مكانٍ قريب من الراديو الذى كان يشدو فيه العندليب الأسمر برائعته «فاتت جنبنا»، أخذت هى تُردِّد الكلمات خلف حليم وهو ممسكٌ بكلتا يديها ناظراً إلى عينيها، وتابع الراديو يقذف عليهما بأعذب الكلمات، فها هى وردة الجزائرية تُغرِّد بأغنيتها البديعة «العيون السود» على ألحان عود عاشقها بليغ حمدى، ثم «حكايتى مع الزمان» وتبعها الراديو بأغنية العاشقين الخالدة «أمل حياتى»، وكلما وصلت كوكب الشرق أم كلثوم لشطر «خلينى جنبك خلينى فى حضن قلبك خلينى»، يزداد العاشقان التصاقاً وتتلاقى عيونهما.
ظلا على هذه الحال لساعات حتى إن مرتادى المقهى تأكَّدوا بما لا يدع مجالاً للشك أن هناك قصة حُب أسطورية تلوح فى الأفق وأن التاريخ سوف يسجل من هذا المكان أسطورة حب جديدة كالتى كتبها عن قيس وليلى وعنترة وعبلة، ولم يرغب أىٌّ من الجالسين أن يزعجهما بأى ضجيجٍ، واكتفوا فقط باستراق نظرات سريعة إليهما أو التلصُّص عليهما كل فترة، حتى خادم المقهى، حافظ أن يقف على مسافة قريبة منهما ربما يفيقان من هيامهما ويطلبان شربة ماء تروى ظمأهما.
بدأ الثُلث الأخير من الليل ينقضى وانصرف معظم رواد المقهى إلى بيوتهم، وهمَّ عمال المقهى فى إعادة ترتيبه، وهنا تنبَّه العاشقان أن الوقت سرقهما وأن خيوط الفجر قد اقتربت وأن ساعة الفراق قد دنت وعليهما الانصراف، همَّا بالقيام والتوجه إلى حيث مكان اللقاء الذى حدث ساعة الغروب، راودته هى أن يعودا مثلما جاءا سيراً على الأقدام ولكن عاوده الخوف عليها فهواء الفجر يرجف الجسد وبرودة ديسمبر تكشر عن أنيابها، تصمم هى وتتمسك بموقفها كالأطفال ويحسم هو القرار بكلمة «لا»، لتعلن عن غضبها بنظرة واحدة كانت كفيلة ليتراجع عن قراره، ويرضخ للسير ويعود مثلما جاءَ، حتى وصل لمكان لقائهما وودعها، حتى غابت عن العيون، فاكتشف أنها رحلت وأخذت معها روح عاشقها، وأسدل الستار على رواية الحياة.