بستان الكتب

طبيب‭ ‬أرياف‭:‬ صور‭ ‬الآخر‭ ‬فى‭ ‬مواجهة‭ ‬الأنا‭!‬

كتاب طبيب‭ ‬أرياف‭
كتاب طبيب‭ ‬أرياف‭

محمد‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن
 

طوال‭ ‬الأحداث‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الدقة‭ ‬أين‭ ‬تقع«القرية‮»‬ ‬التى‭ ‬ذهب‭ ‬إليها‭ ‬الطبيب‭ ‬على‭ ‬باعتبارها‭ ‬عقاباً‭ ‬من‭ ‬السلطة‭ ‬على‭ ‬نشاطه‭ ‬السياسي،‭ ‬فيما‭ ‬اعتبرها‭ ‬هو«استشفاءً‮»‬ ‬مما‭ ‬جرى‭ ‬له‭ ‬فى‭ ‬القاهرة

شهور‭ ‬معدودة‭ ‬هى‭ ‬عمر‭ ‬رحلة‭ ‬على‭ ‬بطل‭ ‬رواية ‬‮«‬طبيب‭ ‬أرياف‮»‬ ‬ للروائى‭ ‬محمد‭ ‬المنسى‭ ‬قنديل،‭ ‬فى‭ ‬البلدة‭ ‬النائية‭ ‬التى‭ ‬نفى‭ ‬إلى‭ ‬وحدتها‭ ‬الصحية‭ ‬عقابا‭ ‬على‭ ‬نشاطه‭ ‬السياسي،‭ ‬رغم‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬الأحداث‭ ‬التى‭ ‬قدمها‭ ‬المؤلف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نستخرج‭ ‬منها‭ ‬عبر‭ ‬استخدام‭ ‬المنهج‭ ‬الثقافي،‭ ‬أو‭ ‬القراءة‭ ‬الثقافية‭ ‬كما‭ ‬يحبذ‭ ‬البعض،‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬تعكس‭ ‬حال‭ ‬المصريين‭ ‬خصوصا‭ ‬أهل‭ ‬الريف‭ ‬فى‭ ‬تلك‭ ‬الحقبة،‭ ‬نهاية‭ ‬عصر‭ ‬الرئيس‭ ‬الأسبق‭ ‬محمد‭ ‬أنور‭ ‬السادات‭ ‬الذى‭ ‬تعمد‭ ‬قنديل‭ ‬ألا‭ ‬يذكره‭ ‬لا‭ ‬هو‭ ‬ولا‭ ‬خلفه‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر،‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬تلك‭ ‬الصور «النظرة‭ ‬إلى‭ ‬الآخر‮»‬ ‬كنسق‭ ‬ثقافى‭ ‬تعانى‭ ‬المجتمعات‭ ‬المحافظة‭ ‬من‭ ‬الإبقاء‭ ‬عليها‭ ‬- ‬أى‭ ‬النظرة‭- ‬ وتعمل‭ ‬بجد‭ ‬على‭ ‬تعدد‭ ‬هذا‭ ‬الآخر‭ ‬ومعاداته‭ ‬مادام‭ ‬ثمة‭ ‬اختلاف‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬فئة‭ ‬وأخرى،‭ ‬دون‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬طرق‭ ‬التقارب‭ .‬
فى‭ ‬السطور‭ ‬التالية‭ ‬محاولة‭ ‬للوقوف‭ ‬على‭ ‬الصور‭ ‬التى‭ ‬ظهر‭ ‬من‭ ‬خلالها «الآخر» ‬‭ ‬فى‭ ‬رواية‭ ‬محمد‭ ‬المنسى‭ ‬قنديل‭ ‬الصادرة‭ ‬فى‭ ‬خريف‭ ‬العام‭ ‬الماضى‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬الشروق‭. ‬


الآخر«الريفى»‬‭ ‬ فى‭ ‬مقابل«الأنا‮»‬‭ ‬ القادم‭ ‬من‭ ‬القاهرة‭  ‬
طوال‭ ‬الأحداث‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الدقة‭ ‬أين‭ ‬تقع «القرية‮»‬ ‬التى‭ ‬ذهب‭ ‬إليها‭ ‬الطبيب‭ ‬على‭ ‬باعتبارها‭ ‬عقاباً‭ ‬من‭ ‬السلطة‭ ‬على‭ ‬نشاطه‭ ‬السياسي،‭ ‬فيما‭ ‬اعتبرها‭ ‬هو «استشفاءً‮»‬ ‬مما‭ ‬جرى‭ ‬له‭ ‬فى‭ ‬القاهرة‭ ‬وتحديداً‭ ‬فى‭ ‬المعتقل‭. ‬هذا‭ ‬التجهيل‭ ‬للمكان،‭ ‬والاكتفاء‭ ‬بأنها‭ ‬إحدى‭ ‬قرى‭ ‬الصعيد،‭ ‬جاء‭ ‬ليؤكد‭ ‬أن‭ ‬الريف‭ ‬أو‭ ‬المجتمع‭ ‬الزراعى‭ ‬شبه‭ ‬البدائى‭ ‬بالنسبة‭ ‬للمؤلف‭ ‬كتلة‭ ‬واحدة‭ ‬تعانى‭ ‬من‭ ‬نفس‭ ‬المشاكل‭ ‬والأوجاع،‭ ‬وغياب‭ ‬أبسط‭ ‬وسائل‭ ‬الحياة‭ ‬المتحضرة‭ ‬كوننا‭ ‬فى‭ ‬نهاية‭ ‬السبعينيات‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬معظم‭ ‬القرى‭ ‬لم‭ ‬يدخلها‭ ‬الكهرباء،‭ ‬عكس‭ ‬الدعاية‭ ‬السياسية‭ ‬فى‭ ‬المرحلة‭ ‬السابقة‭ ‬لتلك‭ ‬الفترة،‭ ‬والتى‭ ‬ربطت‭ ‬بين‭ ‬بناء‭ ‬السد‭ ‬العالى‭ ‬ووصول‭ ‬الكهرباء‭ ‬لكل‭ ‬مكان‭ ‬فى‭ ‬مصر‭. ‬وكما‭ ‬أن‭ ‬المناطق‭ ‬الريفية‭ ‬سواء‭ ‬فى‭ ‬الدلتا‭ ‬أو‭ ‬الصعيد‭ ‬منعزلة‭ ‬عن‭ ‬مركزية‭ ‬القاهرة‭ ‬وتنتظر‭ ‬الدعم‭ ‬دوما،‭ ‬متمثلا‭ ‬هنا‭ ‬فى‭ ‬طبيب‭ ‬يأتى‭ ‬لإحياء‭ ‬الوحدة‭ ‬الصحية‭ ‬التى‭ ‬خوت‭ ‬على‭ ‬عروشها‭ ‬بعد‭ ‬هروب‭ ‬سلفه،‭ ‬لكن‭ ‬كل‭ ‬قرية‭ ‬تعتبر‭ ‬نفسها‭ ‬هى‭ ‬الأخرى‭ ‬معزولة‭ ‬حتى‭ ‬عن‭ ‬المدينة‭ ‬الكبيرة‭ ‬التى‭ ‬تتبعها‭ ‬إدارياً‭.‬
كل‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬جعل‭ ‬القرية‭ ‬محل‭ ‬الأحداث‭ ‬بمثابة «آخر‮»‬ ‬للطبيب‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬يشعر‭ ‬مسبقاً‭ ‬بعدم‭ ‬الانتماء‭ ‬لما‭ ‬هو‭ ‬ذاهب‭ ‬إليه،‭ ‬مقابل‭ ‬شعور‭ ‬الفلاحين‭ ‬بأنهم‭ ‬لا‭ ‬ينتمون‭ ‬إلا‭ ‬لهذا‭ ‬المكان،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تجلى‭ ‬فى‭ ‬المشهد‭ ‬الافتتاحي،‭ ‬حيث‭ ‬جار‭ ‬الطبيب‭ ‬فى‭ ‬الحافلة «حلاوتهم»‬‭ ‬يشرح‭ ‬له‭ ‬بالتفصيل‭ ‬الممل‭ ‬أسماء‭ ‬الزراعات‭ ‬والأشجار‭ ‬وكيف‭ ‬يعرف‭ ‬أنه‭ ‬وصل‭ ‬لمحطته‭ ‬الأخيرة،‭ ‬فيما‭ ‬الطبيب «القاهرى»‬‭  ‬لا‭ ‬يكترث،‭ ‬بل‭ ‬يصف‭ ‬محطة‭ ‬الوصول‭ ‬بـ‮«‬البلدة‭ ‬الكابوس‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬يصف‭ ‬أهلها‭ ‬لاحقا‭ ‬بأنها «كتلة‭ ‬متصلة‭ ‬من‭ ‬البؤس‮»‬،‭ ‬وعندما‭ ‬يدخل‭ ‬فى‭ ‬غرفته‭ ‬بالوحدة‭ ‬الصحية‭ ‬يجد‭ ‬نفسه‭ ‬يقارن‭ ‬بين‭ ‬ظلامها‭ ‬وسواد‭ ‬الليل‭ ‬فى‭ ‬المعتقل‭ ‬الذى‭ ‬عاش‭ ‬فيه‭ ‬لشهور‭ ‬وخرج‭ ‬منه‭ ‬دون‭ ‬أسباب‭ ‬منطقية،‭ ‬لكن‭ ‬بشرط‭ ‬أن‭ ‬يعقل‭ ‬ويستقيم‭ ‬وينسى‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬فى‭ ‬منفاه‭ ‬الإجبارى‭ ‬أى‭ ‬فى «البلدة‭ ‬الكابوس‮»‬‭.‬


وعندما‭ ‬يبدأ‭ ‬أول‭ ‬حوار‭ ‬مع‭ ‬الممرضة‭ ‬التى‭ ‬أحبها‭ ‬لاحقا‭ ‬تسأله‭ ‬عن‭ ‬القاهرة‭ ‬وكأنها‭ ‬تسأل‭ ‬عن‭ ‬عالم‭ ‬سحرى‭ ‬غير‭ ‬موجود‭ ‬سوى‭ ‬فى‭ ‬الحكايات،‭ ‬وهى‭ ‬مؤمنة‭ ‬بشدة‭ ‬أنها‭ ‬ستعيش‭ ‬وتموت‭ ‬فى‭ ‬نفس‭ ‬المكان‭ ‬ولن‭ ‬تخرج‭ ‬منه‭ ‬أبداً،‭ ‬بل‭ ‬ليس‭ ‬لديها‭ ‬طموح‭ ‬لتحقيق‭ ‬ذلك،‭ ‬فذوات‭ ‬أهالى‭ ‬القرية‭ ‬تجتمع‭ ‬على‭ ‬أنهم«أنا»‬‭ ‬مقابل«الآخر‮»‬‭ ‬الذى‭ ‬قد‭ ‬يتمثل‭ ‬فى «المدينة‮»‬ ‬القريبة‭ ‬منهم‭ ‬أحيانا،‭ ‬أو‭ ‬فى‭ ‬العاصمة‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬عنها‭ ‬شيئا‭ ‬ويقابلون‭ ‬فقط‭ ‬مبعوثيها‭ ‬مثل‭ ‬الطبيب‭ ‬بطل‭ ‬الرواية‭. ‬اللافت‭ ‬أنه‭ ‬لاحقا‭ ‬عندما‭ ‬بدأ‭ ‬الطبيب‭ ‬يتفاعل‭ ‬مع‭ ‬الأهالى‭ ‬وأنقذ‭ ‬حياة‭ ‬الكثيرين‭ ‬منهم،‭ ‬وعندما‭ ‬خابت‭ ‬رحلته‭ ‬القصيرة‭ ‬للقاهرة‭ ‬وعاد‭ ‬منها‭ ‬مقررا‭ ‬البقاء‭ ‬فى‭ ‬القرية‭ ‬وعدم‭ ‬التفكير‭ ‬فى‭ ‬استعادة‭ ‬حياته‭ ‬القديمة،‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬دخل‭ ‬فى‭ ‬صدامات‭ ‬وعاش‭ ‬مواقف‭ ‬جعلت‭ ‬الرواية‭ ‬تنتهى‭ ‬بأن‭ ‬أهل‭ ‬القرية‭ ‬وتحديدا‭ ‬الممرضة‭ ‬اعتبروه «غريبا‮»‬ ‬فى‭ ‬النهاية،‭ ‬أى‭ ‬ظل‭ ‬هو«آخر»‬‭ ‬بالنسبة‭ ‬لهم،‭ ‬كما‭ ‬اعتبرهم‭ ‬فى‭ ‬البداية،‭ ‬لذا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬مناص‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬القرية‭ ‬مجدداً،‭ ‬ربما‭ ‬بحثاً‭ ‬عن «آخر‮»‬ ‬جديد‭.‬


الآخر«القبطى‮»‬
‮«‬فى‭ ‬هذه‭ ‬البلدة‭ ‬كلنا‭ ‬أقرباء،‭ ‬حتى‭ ‬الأقباط‭ ‬أقرباء‭ ‬لنا‭ ‬بدرجة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى‮»‬،‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬قالته‭ ‬الممرضة ‬‮«‬فرح‮»‬ ‬للطبيب «علي‮»‬ ‬عندما‭ ‬كانت‭ ‬تتكلم‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬أهالى‭ ‬البلدة‭ ‬ولماذا‭ ‬يهتمون‭ ‬جميعاً‭ ‬بأمر‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض،‭ ‬لكن‭ ‬إشارتها‭ ‬للأقباط‭ ‬ومدى‭ ‬قرابتهم‭ ‬لباقى‭ ‬أهل‭ ‬القرية‭ ‬تناقض‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬لاحقاً‭ ‬للخياط «أبانوب‮»‬ ‬بسبب‭ ‬حبه‭ ‬للأرملة «جليلة‮»‬،غير‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التناقض‭ ‬رغم‭ ‬ذلك‭ ‬ربما‭ ‬يستقيم‭ ‬مع‭ ‬اعتبار‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬وصفه‭ ‬بحدود‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬يتجاوزها «الآخر‮»‬،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬مانع‭ ‬لدى‭ ‬أهل‭ ‬القرية‭ ‬من‭ ‬اعتبار‭ ‬الأقباط‭ ‬إخوة‭ ‬وأقارب‭ ‬وعشرة‭ ‬عمر‭ ‬حسب‭ ‬وصف‭ ‬الممرضة،‭ ‬حتى‭ ‬يتجاوز‭ ‬أحدهم‭ ‬الخط‭ ‬الأحمر‭ ‬ويرتبط‭ ‬عاطفياً‭ ‬بامرأة‭ ‬مسلمة‭ ‬أو‭ ‬العكس،‭ ‬هنا‭ ‬يدفع‭ ‬به‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬إلى‭ ‬مساحة‭  ‬‮ «الآخر‮»‬ ‬ويجوز‭ ‬عليه‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يحمله‭ ‬نسق‭ ‬الاختلاف‭ ‬الدينى‭ ‬وعدم‭ ‬التسامح،‭ ‬فأبانوب‭ ‬يدخل‭ ‬الأحداث‭ ‬باعتباره‭ ‬الخياط‭ ‬القبطى‭ ‬الذى‭ ‬يعيش‭ ‬وحيداً‭ ‬فلا‭ ‬أهل‭ ‬له،‭ ‬لدرجة‭ ‬أن‭ ‬العائلات‭ ‬القبطية‭ ‬ترفض‭ ‬أن‭ ‬تناسبه‭ ‬أى‭ ‬أنه‭ ‬حتى‭ ‬الأقباط‭ ‬يعتبرونه «آخر‮»‬، ‬لمجرد ‬أنه‭ ‬يختلف‭ ‬عنهم‭ ‬فى‭ ‬غياب‭ ‬الأب‭ ‬والأم‭ ‬بسبب‭ ‬الموت‭ ‬وكونه «مقطوع‭ ‬من‭ ‬شجرة‮» ‬ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬التعبير‭ ‬الشعبي،‭ ‬يكسر‭ ‬أبانوب‭ ‬هذه‭ ‬الوحدة‭ ‬بالوقوع‭ ‬فى‭ ‬حب‭ ‬الأرملة‭ ‬جليلة،‭ ‬التى‭ ‬تعانى‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬بسبب‭ ‬تربص‭ ‬أشقاء‭ ‬زوجها‭ ‬بميراثها،‭ ‬والحب‭ ‬بطبيعته‭ ‬فعل‭ ‬متطور‭ ‬لا‭ ‬يقف‭ ‬عندما‭ ‬عتبات‭ ‬المشاعر‭ ‬الأولى،‭ ‬تحمل‭ ‬جليلة‭ ‬دون‭ ‬تعمد‭ ‬وتذهب‭ ‬للطبيب‭ ‬كى‭ ‬تتخلص‭ ‬من‭ ‬الجنين،‭ ‬يرفض‭ ‬بطل‭ ‬الرواية،‭ ‬تخشى‭ ‬جليلة‭ ‬الاستعانة‭ ‬بأى‭ ‬سيدة‭ ‬تتخصص‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬الأمر،‭ ‬فقانون «البلدة‭ ‬الكابوس» ‬‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬من‭ ‬يساعد‭ ‬سيكشف‭ ‬السر،‭ ‬يتدخل‭ ‬أبانوب‭ ‬ويكشف‭ ‬نفسه‭ ‬للطبيب‭ ‬طالباً‭ ‬منه‭ ‬مساعدتها،‭ ‬حيث‭ ‬تردت‭ ‬صحتها‭ ‬بعدما‭ ‬أجهضت‭ ‬نفسها‭ ‬بنفسها،‭ ‬وسط‭ ‬الأحداث‭ ‬وتأكيدا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬حب‭ ‬أبانوب‭ ‬لجليلة‭ ‬حقيقي،‭ ‬وأن‭ ‬الزواج‭ ‬مستحيل‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬أسلم‭ ‬أبانوب،‭ ‬يوشى‭ ‬به‭ ‬البعض‭ ‬عندما‭ ‬يتسلل‭ ‬لمنزلها‭ ‬للاطمئنان‭ ‬عليها،‭ ‬تصبح‭ ‬الفرصة‭ ‬سانحة‭ ‬لأشقاء‭ ‬الزوج‭ ‬الراحل‭ ‬لفضح‭ ‬السيدة،‭ ‬فيما‭ ‬يجد‭ ‬أهل‭ ‬القرية‭ ‬أنفسهم‭ ‬يرتدون‭ ‬إلى «الأنا‮»‬‭ ‬المسلمة‭ ‬ضد«الآخر‮»‬ ‬المسيحي،‭ ‬يجرسون‭ ‬أبانوب‭ ‬بالطريقة‭ ‬القديمة،‭ ‬يركب‭ ‬الحمار‭ ‬بالعكس،‭ ‬ويحرقون‭ ‬محله،‭ ‬كان‭ ‬الخياط‭ ‬الوحيد‭ ‬فى‭ ‬القرية،‭ ‬حتى‭ ‬ينجح‭ ‬بعض‭ ‬العقلاء‭ ‬فى‭ ‬تخليصه‭ ‬بصعوبة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يموت‭ ‬من‭ ‬الضرب،‭ ‬ليختفى‭ ‬تماما‭ ‬ولا‭ ‬يعود‭ ‬أبدا،‭ ‬أما‭ ‬مصير«جليلة‮»‬‭ ‬ فسنعرفه‭ ‬بعد‭ ‬سطور‭. ‬


‮«‬النساء‮» ‬‭ ‬هنّ‭ ‬الآخر
الرواية‭ ‬تشهد‭ ‬ظهور‭ ‬خمس‭ ‬سيدات،‭ ‬أربع‭ ‬منهن‭ ‬داخل‭ ‬القرية،‭ ‬وواحدة‭ ‬فى‭ ‬القاهرة،‭ ‬المساحة‭ ‬الأكبر‭ ‬بالطبع‭ ‬للممرضة «فرح‮»‬ ‬كونها‭ ‬ارتبطت‭ ‬عاطفياً‭ ‬بالطبيب،‭ ‬رغم‭ ‬زواجها‭ ‬من‭ ‬ابن‭ ‬عمها‭ ‬عيسى‭ ‬الذى‭ ‬لقى‭ ‬حتفه‭ ‬قرب‭ ‬نهاية‭ ‬الأحداث،‭ ‬تلتها‭ ‬فى‭ ‬المساحة»الجازية‮»‬‭ ‬كبيرة‭ ‬الغجر،‭ ‬ثم‭ ‬جليلة‭ ‬التى‭ ‬أحبت‭ ‬القبطى‭ ‬أبانوب،‭ ‬وزوجة‭ ‬العمدة‭ ‬رابع‭ ‬سيدات‭ ‬القرية‭ ‬داخل‭ ‬الرواية‭.‬


اللافت‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬السيدات‭ ‬عانين‭ ‬بشكل‭ ‬أو‭ ‬بآخر‭ ‬من‭ ‬الرجال،‭ ‬وكأن‭ ‬النسق‭ ‬الثقافى‭ ‬الذى‭ ‬فرض‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬المنسى‭ ‬قنديل‭ ‬يأتى‭ ‬من‭ ‬إيمانه‭ ‬بأن‭ ‬النساء‭ ‬فى‭ ‬المجتمع‭ ‬المصرى‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬ريفياً‭ ‬أو‭ ‬حضرياً‭ ‬يعانين‭ ‬من‭ ‬تصرفات‭ ‬الرجال‭ ‬وأفكارهم‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مباشرة،‭ ‬كما‭ ‬فى‭ ‬شخصية»فاتن‮»‬‭ ‬حبيبة‭ ‬الطبيب‭ ‬التى‭ ‬رفضت‭ ‬أن‭ ‬تعود‭ ‬له‭ ‬بعد‭ ‬خروجه‭ ‬من‭ ‬المعتقل،‭ ‬ورغم‭ ‬تأكيده‭ ‬بإغلاق‭ ‬ملف‭ ‬العمل‭ ‬السياسى‭ ‬للأبد،‭ ‬لكن‭ ‬بالنسبة‭ ‬لفاتن‭ ‬فإن‭ ‬اعتقال‭ ‬حبيبها‭ ‬السابق‭ ‬وحتى‭ ‬قبل‭ ‬الارتباط‭ ‬الرسمى‭ ‬جلب‭ ‬لها‭ ‬المشاكل،‭ ‬فرجال‭ ‬الأمن‭ ‬حاموا‭ ‬حولها‭ ‬لمعرفة‭ ‬المزيد‭ ‬عنه،‭ ‬أى‭ ‬أنه‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يقصد‭ ‬سبّب‭ ‬لها‭ ‬ألما‭ ‬داخليا‭ ‬وإحراجا‭ ‬أمام‭ ‬عائلتها،‭ ‬التى‭ ‬اتخذت‭ ‬القرار‭ ‬الكلاسيكى‭ ‬بسرعة‭ ‬تزويجها‭ ‬من‭ ‬رجل‭ ‬آخر،‭ ‬لضمان‭ ‬أن‭ ‬يصدق‭ ‬رجال‭ ‬الأمن‭ ‬أولا‭ ‬أنها‭ ‬ابتعدت‭ ‬عن‭ ‬الطبيب‭ ‬المعتقل،‭ ‬وأيضا‭ ‬لضمان‭ ‬قطع‭ ‬الطريق‭ ‬على‭ ‬الحبيب‭ ‬إذا‭ ‬رأى‭ ‬النور‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭.‬


بالعودة‭ ‬إلى‭ ‬القرية‭ ‬التى‭ ‬تشهد‭ ‬معظم‭ ‬الأحداث،‭ ‬سنجد‭ ‬زوجة‭ ‬العمدة‭ ‬الشابة‭ ‬التى‭ ‬تنفر‭ ‬من‭ ‬كبير‭ ‬القرية‭ ‬بسبب‭ ‬عنفه‭ ‬الجسدى‭ ‬معها‭ ‬وتحلم‭ ‬باستمالة‭ ‬الطبيب‭ ‬فى‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته،‭ ‬تظهر‭ ‬فى‭ ‬مشهد‭ ‬تحاول‭ ‬إغواء‭ ‬الطبيب‭ ‬داخل‭ ‬منزل‭ ‬العمدة‭ ‬لكنها‭ ‬تعكس‭ ‬كيف‭ ‬تعيش‭ ‬فى‭ ‬بؤس‭ ‬قبل‭ ‬وبعد‭ ‬الزواج،‭ ‬فقد‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬أسرتها‭ ‬الفقيرة‭ ‬فقط‭ ‬كى‭ ‬تجد‭ ‬غرفة‭ ‬مستقلة‭ ‬وحماماً‭ ‬آدمياً،‭ ‬لكنها‭ ‬دخلت‭ ‬فى‭ ‬سجن‭ ‬رجل‭ ‬لا‭ ‬يرضيها‭ ‬كامرأة،‭ ‬ويعوض‭ ‬نقصه‭ ‬بالضرب‭ ‬والتعذيب،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تهرب‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬لا‭ ‬نعلمه‭ ‬فى‭ ‬نهاية‭ ‬الأحداث،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬العمدة‭ ‬يشك‭ ‬أنها‭ ‬لدى‭ ‬الطبيب‭ ‬الذى‭ ‬تدفع‭ ‬دراما‭ ‬الرواية‭ ‬معظم‭ ‬الأحداث‭ ‬والخيوط‭ ‬للتشابك‭ ‬والتقاطع‭ ‬عنده‭. ‬
معاناة«جليلة»‬‭ ‬ أوردناها‭ ‬فى‭ ‬الفقرة‭ ‬السابقة،‭ ‬لكن‭ ‬نكمل‭ ‬هنا‭ ‬بأنها‭ ‬تعرضت‭ ‬للقتل‭ ‬بعد‭ ‬طرد‭ ‬أبانوب،‭ ‬ونفذ‭ ‬أشقاء‭ ‬زوجها‭ ‬الراحل‭ ‬مهمتهم،‭ ‬فقد‭ ‬استعادوا‭ ‬التركة‭ ‬من‭ ‬سيدة‭ ‬مات‭ ‬عائلها‭ ‬ولم‭ ‬يترك‭ ‬لها‭ ‬ولداً،‭ ‬بالتالى‭ ‬بما‭ ‬أنها‭ ‬سيدة‭ ‬وحيدة‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬فى‭ ‬منتصف‭ ‬العمر‭ ‬فلا‭ ‬يحق‭ ‬لها‭ ‬أى‭ ‬شيء،‭ ‬الزواج‭ ‬يعنى‭ ‬أن‭ ‬رجلا‭ ‬آخر‭ ‬سيعيش‭ ‬فى‭ ‬خير‭ ‬المرحوم،‭ ‬والحب‭ ‬ممنوع‭ ‬خصوصا‭ ‬لو‭ ‬قلبها‭ ‬دق‭ ‬لرجل‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬دينها،‭ ‬تتعقد‭ ‬الأحداث‭ ‬ويصبح‭ ‬مصيرها‭ ‬محتوما،‭ ‬لم‭ ‬تمت‭ ‬بسبب‭ ‬توابع‭ ‬الإجهاض‭ ‬وماتت‭ ‬مقتولة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتمكن‭ ‬المأمور‭ ‬أو‭ ‬الطبيب‭ ‬من‭ ‬إثبات‭ ‬التهمة‭ ‬على‭ ‬القاتل،‭ ‬حتى‭ ‬جنازتها‭ ‬سار‭ ‬فيها‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬السيدات،‭ ‬وكأنها‭ ‬اعتراف‭ ‬من «الأنا»‬‭ ‬الذكورية‭ ‬بأن»الآخر»‬‭ ‬الأنثى‭ ‬لا‭ ‬يستحق‭ ‬حتى‭ ‬الوداع‭ ‬الزائف‭. ‬


‮«‬الجازية»‬‭ ‬كبيرة‭ ‬الغجر،‭ ‬تحكى‭ ‬سيرة‭ ‬بنى‭ ‬هلال‭ ‬فى‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬أجمل‭ ‬فصول‭ ‬الرواية‭ ‬وكأنها‭ ‬تحكى‭ ‬سيرة‭ ‬الإنسان‭ ‬العربى‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬زمن،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬تغير‭ ‬فى‭ ‬الأفكار‭ ‬والسلوكيات،‭ ‬فى‭ ‬الثقافة‭ ‬التى‭ ‬تحكمنا‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬تتعرض «الجازية‮»‬ ‬رغم‭ ‬الحكمة‭ ‬البادية‭ ‬عليها‭ ‬للاعتداء‭ ‬الجنسى‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬الأمن،‭ ‬فقط‭ ‬تأكيداً‭ ‬لاحتقارهم‭ ‬لسيدات‭ ‬الغجر،‭ ‬حتى‭ ‬الطبيب‭ ‬الذى‭ ‬تميل‭ ‬إليه‭ ‬وتعرض‭ ‬أن‭ ‬تمنحه‭ ‬نفسها‭ ‬عن‭ ‬طيب‭ ‬خاطر‭ ‬ينظر‭ ‬لها‭ ‬باستعلاء‭ ‬كرجل،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬رق‭ ‬قلبه‭ ‬لها‭ ‬لاحقاً‭ ‬عندما‭ ‬تعرضت‭ ‬للاعتداء‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬يودى‭ ‬بحياتها‭. ‬تظهر«الجازية‮»‬ ‬كسيدة‭ ‬تعرف‭ ‬جيداً‭ ‬أنها «آخر‮»‬ ‬بالنسبة‭ ‬لأهل‭ ‬القرية‭ ‬ورجل‭ ‬الشرطة،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬المأمور‭ ‬عندما‭ ‬يأتى‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬الوحدة‭ ‬الصحية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬علاجها‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬الاعتداء‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك‭ ‬باعتباره‭ ‬حدثاً‭ ‬هامشياً،‭ ‬مهمته‭ ‬الأساسية‭ ‬كانت‭ ‬الاتفاق‭ ‬مع‭ ‬الطبيب‭ ‬على‭ ‬تحويل‭ ‬الوحدة‭ ‬للجنة‭ ‬انتخابية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬استفتاء‭ ‬الرئاسة‭ ‬أكتوبر‭ ‬1981،‭ ‬فيما‭ ‬يرد‭ ‬على‭ ‬الطبيب‭ ‬عندما‭ ‬يسأله‭ ‬ماذا‭ ‬يفعل‭ ‬مع‭ ‬الجازية‭ ‬عندما‭ ‬تستعيد‭ ‬صحتها،‭ ‬بـ ‮«‬اعتبرها‭ ‬هدية‭ ‬منى»‬‭ ‬أى‭ ‬أنه‭ ‬حول‭ ‬الإنسانة‭ ‬إلى‭ ‬مجرد«شىء‭ ‬مادى‮»‬،‭ ‬وإذا‭ ‬ماتت‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يدفنها‭ ‬فى‭ ‬أى‭ ‬مكان،‭ ‬وإذا‭ ‬عاشت‭ ‬يأتى‭ ‬أهلها‭ ‬لأخذها‭ ‬من‭ ‬أنفسهم‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يستدعيهم‭ ‬أحد،‭ ‬الجازية‭ ‬هنا‭ ‬ليست «آخر‮»‬‭ ‬بسبب‭ ‬كونها‭ ‬سيدة‭ ‬فقط،‭ ‬وإنما‭ ‬سيدة‭ ‬وغجرية‭.‬


بقى‭ ‬من‭ ‬نساء‭ ‬الرواية،‭ ‬صاحبة‭ ‬المساحة‭ ‬الأكبر،‭ ‬الممرضة‭ ‬التى‭ ‬أثرت‭ ‬فى‭ ‬حياة‭ ‬الطبيب،‭ ‬روت‭ ‬عطشه،‭ ‬ملأت‭ ‬لياليه،‭ ‬وهزمت‭ ‬وحدته،‭ ‬لكن «فرح‮»‬ ‬التى‭ ‬لم‭ ‬تبد‭ ‬عليها‭ ‬السعادة‭ ‬كثيرا‭ ‬فى‭ ‬الرواية،‭ ‬بل‭ ‬الاستسلام‭ ‬لمصير‭ ‬محتوم‭ ‬كباقى‭ ‬بنات‭ ‬قريتها،‭ ‬تبادلت‭ ‬الأدوار‭ ‬بين «الأنا»‬‭ ‬و‮«‬الآخر‮»‬ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة،‭ ‬فعندما‭ ‬مالت‭ ‬للطبيب‭ ‬رغم‭ ‬أنها‭ ‬متزوجة‭ ‬من‭ ‬ابن‭ ‬عمها،‭ ‬كانا‭ ‬معاً»الأنا‮»‬‭ ‬ضد‭ ‬الزوج‭ ‬العاطل‭ ‬المريض،‭ ‬الذى‭ ‬لا‭ ‬أمل‭ ‬فى‭ ‬أن‭ ‬يمنح «فرح»‬‭ ‬طفلاً‭ ‬تكمل‭ ‬به‭ ‬حياتها،‭ ‬وتواجه‭ ‬معه‭ ‬سنوات‭ ‬الملل‭ ‬التى‭ ‬تعيشها‭ ‬كل‭ ‬سيدة‭ ‬فى‭ ‬القرية‭ ‬حتى‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬قبرها،‭ ‬كما‭ ‬قالت‭ ‬للدكتور‭ ‬علي،‭ ‬لكن‭ ‬بمجرد‭ ‬أن‭ ‬تسرب‭ ‬الشك‭ ‬إلى‭ ‬زوجها‭ ‬تعاملت‭ ‬مع‭ ‬الطبيب‭ ‬بمبدأ «أنا‭ ‬وابن‭ ‬عمى‭ ‬على‭ ‬الغريب‮»‬،‭ ‬رغم‭ ‬أنها‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬بأيام‭ ‬سلمته‭ ‬جسدها‭ ‬عن‭ ‬طيب‭ ‬خاطر،‭ ‬فيما‭ ‬الزوج‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬مفرًا‭ ‬من‭ ‬المخاطرة‭ ‬والسفر‭ ‬عبر‭ ‬الصحراء‭ ‬إلى‭ ‬ليبيا‭ ‬مستعيرا‭ ‬أجر‭ ‬الدليل‭ ‬من‭ ‬الطبيب‭ ‬ذاته،‭ ‬اعترافًا‭ ‬بأن‭ ‬القرية‭ ‬كلها‭ ‬ليس‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬يقرضه،‭ ‬إنها‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬ثنائية»الأنا‭ ‬والآخر‮»‬،‭ ‬لكن «الآخر‮»‬ ‬هنا‭ ‬يضطر‭ ‬للتعامل‭ ‬مع‭ ‬الغريب‭ ‬لأنه‭ ‬الوحيد‭ ‬الذى‭ ‬يملك‭ ‬ما‭ ‬ينقصه،‭ ‬فى‭ ‬الظروف‭ ‬العادية‭ ‬ربما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ليقترب‭ ‬عيسى‭ ‬من‭ ‬الطبيب‭ ‬بل‭ ‬سيغار‭ ‬منه،‭ ‬لكن‭ ‬ضعفه‭ ‬ويأسه‭ ‬ومرضه‭ ‬جعل‭ ‬الاقتراب‭ ‬ضرورة‭ ‬أودت‭ ‬بحياته‭ ‬لاحقاً،‭ ‬حيث‭ ‬مات‭ ‬المهاجرون‭ ‬بعدما‭ ‬ضلوا‭ ‬الطريق،‭ ‬وذهب‭ ‬الطبيب‭ ‬مع‭ ‬المأمور‭ ‬فى‭ ‬محاولة‭ ‬إنقاذ‭ ‬يائسة،‭ ‬لتأتى‭ ‬المفارقة‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬فرح،‭ ‬فرغم‭ ‬أن‭ ‬حلم‭ ‬الطبيب‭ ‬والممرضة‭ ‬المستحيل‭ ‬كان‭ ‬الزواج‭ ‬حتى‭ ‬يربيّا‭ ‬الجنين‭ ‬الذى‭ ‬أنبته‭ ‬على‭ ‬فى‭ ‬رحم‭ ‬فرح،‭ ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬وفاة‭ ‬عيسى‭ ‬غير‭ ‬المتوقعة‭ ‬أنهت‭ ‬الحيرة،‭ ‬لكن «فرح‮»‬ ‬ارتدَّت‭ ‬إلى «الذات‭ ‬الجماعية‮»‬،‭ ‬النسوية‭ ‬والريفية‭ ‬فى‭ ‬آن‭ ‬واحد،‭ ‬فمن‭ ‬جهة‭ ‬اعتبرت‭ ‬نفسها‭ ‬نزوة‭ ‬فى‭ ‬حياة‭ ‬الطبيب‭ ‬الذى‭ ‬بالتأكيد‭ ‬سيحب‭ ‬ممرضة‭ ‬أخرى‭ ‬لاحقاً‭ ‬كما‭ ‬تشك‭ ‬كل‭ ‬النساء،‭ ‬وعلى‭ ‬خط‭ ‬مواز‭ ‬اعتبرته‭ ‬مسئولاً‭ ‬عن‭ ‬وفاة «ابن‭ ‬عمها‮»‬،‭ ‬لأنه‭ ‬أقرضه‭ ‬الأموال‭ ‬التى‭ ‬دفعت‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬الرحلة‭ ‬المشؤومة،‭ ‬فقررت‭ ‬الابتعاد‭ ‬عنه‭ ‬ورمته‭ ‬بالطين‭ ‬أمام‭ ‬الجميع‭!‬


ممثل‭ ‬السلطة‭ ‬فى‭ ‬مواجهة «الآخر»‬‭ ‬
ظهر‭ ‬ممثل‭ ‬السلطة‭ ‬ثلاث‭ ‬مرات‭ ‬فى‭ ‬أحداث‭ ‬الرواية،‭ ‬بداية‭ ‬بمسئول‭ ‬الأمن‭ ‬السياسى‭ ‬الذى‭ ‬منح‭ ‬الطبيب‭ ‬ختم‭ ‬العودة‭ ‬لعمله‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬بشرط‭ ‬أن‭ ‬يلتزم‭ ‬بالهدوء‭ ‬ويبتعد‭ ‬عن‭ ‬المشاغبة،‭ ‬والذى‭ ‬أخبره‭ ‬بأن‭ ‬النقل‭ ‬إلى‭ ‬وحدة‭ ‬صحية‭ ‬فى‭ ‬قرية‭ ‬نائية‭ ‬بمثابة‭ ‬عقاب‭ ‬أفضل‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬الاعتقال،‭ ‬وأنه‭ ‬سيظل‭ ‬تحت‭ ‬المراقبة‭ ‬للاطمئنان‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬عودته‭ ‬للسياسة‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬وفى‭ ‬المرة‭ ‬الثانية‭ ‬كان‭ ‬رجل‭ ‬الأمن‭ ‬الذى‭ ‬التقى‭ ‬الطبيب‭ ‬فى‭ ‬زيارته‭ ‬للمعتقل‭ ‬الذى‭ ‬تحوّل‭ ‬إلى‭ ‬متحف،‭ ‬ليدور‭ ‬بينهما‭ ‬حوار‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬الفكر‭ ‬لم‭ ‬يتغير‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬تغير‭ ‬السجن‭ ‬من‭ ‬الخارج‭ ‬وأصبح‭ ‬متحفًا،‭ ‬نظرة‭ ‬رجل‭ ‬الشرطة‭ ‬للمشاغب‭ ‬السياسى‭ ‬تظل‭ ‬ممتدة،‭ ‬ولا‭ ‬يدفعه‭ ‬للمراجعة‭ ‬كون‭ ‬المعتقل‭ ‬قد‭ ‬خرج‭ ‬وربما‭ ‬تغيرت‭ ‬أفكاره،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬زيارة‭ ‬من‭ ‬كانوا‭ ‬بالمعتقل‭ ‬للسجن‭ (‬المتحف‭)‬،‭ ‬تثير‭ ‬حنق‭ ‬رجل‭ ‬الشرطة‭ ‬أكثر،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬متوقع‭ ‬كون»الأنا‮»‬‭ ‬السلطوية‭ ‬هنا‭ ‬تجد‭ ‬نفسها‭ ‬فى‭ ‬مشكلة،‭ ‬فـ ‮«‬الآخر»‬‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬تحت‭ ‬إمرتها‭ ‬يتجول‭ ‬بحرية‭ ‬فى‭ ‬مكان‭ ‬ظل‭ ‬لعقود‭ ‬مكانا‭ ‬للتأديب‭ ‬والتهذيب‭. ‬
يتعامل‭ ‬ممثل‭ ‬السلطة‭ ‬إذن‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬ظهور‭ ‬له‭ ‬برواية‭ ‬المنسى‭ ‬قنديل‭ ‬باعتباره‭ ‬صاحب‭ ‬اليد‭ ‬العليا‭ ‬على «الآخر‮»‬،‭ ‬مادام‭ ‬هذا‭ ‬الآخر‭ ‬مخالفاً‭ ‬للقانون،‭ ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬مفتقد‭ ‬لحق‭ ‬المشاركة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬مع‭ ‬ظهور‭ ‬ممثل‭ ‬السلطة‭ ‬الثالث،‭ ‬مأمور‭ ‬المركز‭ ‬الذى‭ ‬تتبعه‭ ‬القرية،‭ ‬ففى‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬يدخل‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬الأحداث‭ ‬يؤكد‭ ‬نفس‭ ‬الفكرة،‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬الطبيب‭ ‬باعتباره‭ ‬موظفاً‭ ‬حكومياً‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬ينفذ‭ ‬الأوامر‭ ‬لأنها‭ ‬الأوامر‭ ‬وحسب،‭ ‬ويورطه‭ ‬فى‭ ‬تزوير‭ ‬الانتخابات‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتوقف‭ ‬ويسأل‭ ‬نفسه‭: ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬يذهب‭ ‬الناس‭ ‬للتصويت؟‭ ‬لم‭ ‬يهتم‭ ‬بمعرفة‭ ‬كيف‭ ‬يفكر«الآخ‮»‬ ‬ تجاه‭ ‬الحدث‭ ‬السياسى‭ ‬الكبير،‭ ‬فالأسهل‭ ‬تزوير‭ ‬إرادتهم،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬حتى‭ ‬طريقة‭ ‬التزوير‭ ‬التى‭ ‬اتبعها‭ ‬الطبيب‭ ‬ورغم‭ ‬كونها‭ ‬تتحلى‭ ‬بالمنطق،‭ ‬وجدت‭ ‬منه‭ ‬تعنتاً‭ ‬شديداً‭ ‬وتحدياً‭ ‬سافراً‭ ‬ليس‭ ‬للطبيب‭ ‬فقط‭ ‬وإنما‭ ‬حتى‭ ‬للقاضى‭ ‬مسئول‭ ‬اللجنة،‭ ‬صوَّت‭ ‬الطبيب‭ ‬بـ ‮«‬لا»‬‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬الأوراق،‭ ‬نسبة‭ ‬ضئيلة‭ ‬للغاية،‭ ‬ورفضت «الأنا‭ ‬السلطوية‮»‬ ‬ذلك،‭ ‬وقررت‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬الأصوات‭ ‬ستكون «نعم‮»‬‭ ‬أيا‭ ‬كانت‭ ‬الملابسات‭.‬
خلال‭ ‬ذلك‭ ‬تابعنا‭ ‬كيف‭ ‬تُعامِل‭ ‬الشرطة«الغجر‮»‬ ‬وكأنهم‭ ‬ليسوا‭ ‬بشراً،‭ ‬وعندما‭ ‬احتاج‭ ‬للمساعدة‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬المهاجرين‭ ‬غير‭ ‬الشرعيين‭ ‬لم‭ ‬يخجل‭ ‬فى‭ ‬طلبها‭ ‬ممن‭ ‬يحتقرهم‭ ‬لأن‭ ‬الغجر‭ ‬أدرى‭ ‬بدروب‭ ‬الصحراء،‭ ‬ثم‭ ‬كيف‭ ‬يتعامل‭ ‬بيأس‭ ‬أمام‭ ‬مقتل‭ ‬جليلة‭ ‬لعدم‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬كشف‭ ‬الجاني،‭ ‬وكأن «الأنا‭ ‬السلطوية‮»‬ ‬لا‭ ‬تظهر‭ ‬إلا‭ ‬وخطوط‭ ‬اللعبة‭ ‬كلها‭ ‬بين‭ ‬يديه،‭ ‬عدا‭ ‬ذلك‭ ‬يتم‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬جريمة‭ ‬قتل‭ ‬بتدليس‭ ‬مشترك‭ ‬بين‭ ‬الشرطة‭ ‬والقاتل،‭ ‬لا‭ ‬دليل،‭ ‬لا‭ ‬اعتراف،‭ ‬ومطلوب‭ ‬دفن «الجثة‮»‬،‭ ‬إذن‭ ‬الكل‭ ‬يتواطأ‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬يتحمل‭ ‬الجريمة‭ ‬لص‭ ‬مجهول،‭ ‬سرق‭ ‬المنزل‭ ‬وقتل‭ ‬صاحبته،‭ ‬التى‭ ‬تمثل «الآخر»‬‭ ‬المغلوب‭ ‬على‭ ‬أمره‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬التى‭ ‬أبدع‭ ‬فيها‭ ‬بحق‭ ‬محمد‭ ‬المنسى‭ ‬قنديل‭. ‬