محمد المنسى قنديل: فى «طبيب أرياف» القرية ملخص للمدينة

محمد المنسى قنديل
محمد المنسى قنديل

حوار: أحمد عبد اللطيف

من الذاكرة، عادةً ما ينطلق الروائى الكبير محمد المنسى قنديل، ليستلهم عالمه السردي. ذاكرة مشبعة بصور عن القرية، وهزيمة 67، والسفر، والأحداث التاريخية. ومن التأمل، تأمل المجتمع المصرى ورصد تغيراته، يشيّد هذا العالم، يختصر تصوراته الكلية وأسئلته الكبرى فى حيز ضيق، يفكك كل عناصره، فتتعرى أمامه أزمات مصر بداية من النصف الثانى من القرن الماضي.
     يمكن أن نقول إن مفردات العزلة، الحب المكبوح، الفقر، القرية، الطب، مفردات رئيسية تلتصق به، فيما يمثل الهم السياسى والاجتماعى بُنى جوهرية فى مجمل أعماله. من المحلة لـ المنيا للقاهرة لكندا، ثمة انتقالات مكانية رافقت معها انتقالات فكرية وتطورات إبداعية، كانت سببًا رئيسيًا فى التنوع الإبداعى لدى صاحب "كتيبة سوداء"، فى الرواية والقصة والعودة للتراث العربي، بالتزامن مع سؤال الهوية الدافع لقراءة التاريخ كخطوة أساسية لفهم الحاضر. لا تخلو أعمال المنسى قنديل من هذا الهم الجمعي، الفرد ليس فردًا تمامًا لأنه جزء من جماعة أكبر يتقاسم معها البطولة، أو بالأحرى: الهزيمة. والهزيمة أحد مفاتيح قراءة أعماله بدايةً من "من قتل مريم الصافي" وحتى "طبيب أرياف"، من نكسة 67 وحتى إخفاق ثورة يناير، إذ فى العمق يبدو سؤال السياسة متجذرًا، حتى كأنه أحد دوافع الكتابة ذاتها.

      يتبنى صاحب «يوم غائم فى البر الغربي» الأسئلة الكبرى فى أعماله، وتدور هذه الأعمال عادةً حول سؤال كبير، لكنه يدخل إليه من التفاصيل اليومية الصغيرة، ومن شخصيات لا تملك القوة ولا العصيان السحرية، وإنما تملك الضعف والهشاشة والحيرة. تبدو الكتابة لدية كأداة فعالة لتعرية المجتمع والتاريخ، والمكان مهما كان صغيرًا هو ملخص العالم الواسع. بذلك، بقدر ما تنضح أعماله ببيئة مصرية، وأحداثه بإطار جغرافى محدد، إلا أنه يشتبك مع سؤال كوني، يتردد فى ثقافات أخرى وأزمنة أخرى.
      النبش فى المجتمع يتوازى عنده مع النبش فى الثقافة، وتحتل الثقافة العربية مكانة بارزة فى هذا المشروع، كما يمكن أن نرى فى «شخصيات حية من كتاب الأغاني»، حيث يعيد قراءة كتاب «الأغاني» للأصفهاني، هذا العمل الضخم والأسطورى والرئيسى فى التراث العربي، ليستخلص منه شخصيات وأحداثًا فى صورة تلخيص وموجز، فيغدو بذلك مادة قابلة للقراءة بسهولة، وهو جهد ضخم لو وضعنا فى اعتبارنا حجم الكتاب الأصلي. هذا الترحال فى التراث العربى يقوده إلى «تفاصيل الشجن فى وقائع الزمن»، وهو كتاب يضم ثلاثين حكاية تاريخية، يصنع منها المنسى قنديل جديلة سردية، ينتقل فيها من عصر ما قبل الإسلام إلى العصر الأموى والعباسى مرورًا بالفاطمى والأندلسى وملحمة أبو زيد الهلالي، ووصولًا إلى محمد علي.
      وبقدر ما يتنوع مشروعه الروائى من «انكسار الروح» إلى «قمر على سمرقند» إلى «كتيبة سوداء» ويوم غائم فى البر الغربي»، بما يتضمنه من انتقال مكانى وزمانى وتاريخي، وتنوع كبير فى الموضوعات والشخصيات، ثمة تنوع آخر كبير فى المادة الكتابية والنوع الأدبي، من رواية لقصة لأدب أطفال لسيناريو، ثم يلحق بها الكتابة التاريخية وإعادة التأمل فى التراث. كل هذا يمنح للمنسى قنديل أبعادًا أخرى لمثقف موسوعى وقارئ نهم.
     وفى «طبيب أرياف» (الشروق، 2020) يتناول صاحب «قمر على سمرقند» سيرة طبيب هو مناضل سياسي، يخرج من السجن ليمارس الطب فى قرية نائية. هذا هو الإطار العام للرواية، القرية مكان الحدث، رغم ما يقال عن أن الرواية بنت المدينة، نشأت فيها وتتطور من خلالها. والبطل طبيب، ما يعنى أنه يتلاقى مع المؤلف فى شيء من سيرته. ومن هذا الأساس، تتفرع شخصيات أخرى عديدة. تعمل الرواية على التعمق فى المكان وتعريته، وتتصل بروايته الأولى «انكسار الروح» حتى تبدو كجزء ثانٍ لها.
     هنا نحاور المنسى قنديل حول «طبيب أرياف» والقرية والمدينة كفضاء سردي، والهم السياسى والاجتماعى داخل أعماله.
 تعود فى «طبيب أرياف» إلى القرية، ولعل هذا ما أثار عندى سؤالًا عن مدى صلاحية القرية لتكون فضاءً روائيًا؟
أحد أسباب تأخرى فى كتابة هذه الرواية هو تصورى أن الرواية بنت المدينة كما يقولون، لأن الناس فى المدينة أفراد، أما فى القرية فهم هويات اجتماعية يغيب معها معنى الفردية. لذلك كنت أقول إن الكتابة عن القرية نمطية، ستتناول الأرض ومن يملكها ومن يتحكم فيها. لذلك هجرت الكتابة عن الريف لفترة طويلة، باعتقاد أن القرية هى القرية ومتشابهة حتى مع الغرب، حتى أنى أرى أن  رواية «الأرض» تتشابه مع روايات غربية عديدة. ثم حدث أنى فى فترة ما عانيت من التباس روائي، تواكب ذلك مع 25 يناير وما بعدها. كنت أحب الكتابة عن هذا الحدث الكبير ورأيت أنها أيقظت شيئًا دفينًا فى الروح المصرية. ثم وأنا أكتبها واجهت مشاكل كثيرة، تحول بين أن تظهر الرواية كما كنت أريدها وأتوقعها، كما أنها كانت ستواجه صعوبة عند  نشرها فى مصر. كل ذلك دفعنى لأنتظر كثيرًا، حتى مر ما يقرب من خمس سنوات بدون كتابة، منذ صدور «كتيبة سوداء» (2015). مع هذه الرغبة فى الكتابة عن 25 يناير، تذكرت تجربتى فى الريف. تجربة كنت أراها فى البداية غير صالحة للكتابة، ثم حدث أن بدأت أتذكر شخصيات كثيرة قابلتها، وراح العالم السردى يتكوّن رويدًا رويدًا. لقد ساعدتنى العزلة التى فرضتها الكورونا على أن أنجز فى كتابة الرواية. حينها كنت فى كندا، فعدت إلى مصر والتزمت بالعزلة، إذ كان الرعب من انتشار الفيروس مضاعفًا. خلال هذه الفترة استطعت استعادة كل التجارب الممكنة والذكريات التى كانت تعرض أمامى كفيلم سينمائي. لكننى لم أكتف باستحضار ذكريات القرية وحدها، لقد أضفت إليها خبراتى الشخصية فى كثير من الأماكن الأخرى، وتأملاتى على مدار زمنى طويل، فضلًا عن حبى ورغبتى فى العودة إلى الكتابة. والحقيقة أن العمل كان من الممكن أن يكون أكبر بكثير، لكنى قررت أن الرواية اكتملت حتى هذا الحد.
تشير إلى تغيرات حدثت فى الروح المصرية مع ثورة يناير، ومع الكثير من الايجابيات التى يمكن رصدها، ومن ضمنها الاهتمام بالشأن العام والشعور بأنه يخصنا جميعًا، هل تلاحظ زيادة العنف فى الشارع، أم أنه كان موجودًا دائمًا والآن نراه بسبب وسائل التواصل الاجتماعي؟
لا أريد أن أحمّل الثورة أكثر مما تحتمل، لكن ليس هناك ارتباط بين الثورة وعنف الشارع الحالي. كنت أقرأ فى مجلة من الثلاثينات ولاحظت أنها مليئة بأحداث عنف أكثر مما نراه الآن، ولا تزال نفس هذه الجرائم ترتكب. أرى أن الجريمة لها علاقة بالغبن والفقر وعدم العدالة الاجتماعية. الفقر هو العنصر الدائم وراء العنف والجريمة. رأيى أن المصريين تغيروا، حتى لو لم تحدث يناير تغييرًا فى البنية الفوقية، فقد أثرت فى الناس وفتحت لهم بابًا للاهتمام بالسياسة والحياة العامة. لاحظ أن ثمة جهدًا يبذله بعض الإعلاميين لتغيير الحقائق، أنهم يقولون أشياءً لا علاقة لها بالحقيقة، يقدمون صورة أخرى للأحداث، نوعًا مخالفًا للحقيقة، من أجل تدمير بقايا 25 يناير الإيجابية. لكن المعروف تاريخيًا أن الثورات لا تموت، تخفت نعم وتتراجع ربما، لكنها لا تموت، وما تحدثه من تغيير يحدث على فترة زمنية طويلة.
لكن بعد عشر سنوات من حدوثها، كيف تراها الآن؟
فكرة الثورة ابتعدت كما كنا نحلم بها، لكنها صنعت التواءة فى المجتمع المصري. مصر من أقدم الدول ذات الحكم المستقر والمركزي، وعادةً ما يخلق وضعها وطبيعتها الصراعات المتعددة، ويستدعى الأمر حكومة لتنظيم الحياة. مصر كدولة نهرية، يحتاج أهلها إلى الاستقرار، صنع ما يسميه المتخصصون في السياسة بالعبودية الطوعية، وتعنى خلق حكومة مسؤولة تضع القوانين وينصاع لها الناس. يناير غيّرت هذا المفهوم، وكشفت شيئًا من الشخصية المصرية التى لا تستسلم للقهر، وقد التفت جمال حمدان فى «شخصية مصر» إلى هذا الملمح. من المهم أن يلتفت الكُتّاب لدور الأدب وأهميته فى طرح مفاهيم الحرية، هذا الدور المحورى يساعد فى تفتيح وعى الناس، ولا يتركهم للاستسلام. هذا ما يجب أن تتركه الثورة فى أراوحنا.
لكن الدور الأكبر والمؤثر يقوم به الإعلامي، هل ترى أن المثقف سيكون له دور فى نشر الوعى فى هذه المرحلة؟
لنضع فى الاعتبار أن أكثر من 37% من الشعب لا يقرأ ولا يكتب، ونسبة أخرى يعرفون القراءة لكنهم لا يتزودون بأى معرفة. بالتالى فالكاتب سلاحه الكلمة عبر كتاب مثلًا، أما الإعلامى فلديه وسائل الإعلام ذات التأثير الأكبر لأنها شفوية، وتعمل الدولة على دعمها. الحقيقة أن المثقفين دورهم هامشي، ولن يتحسن هذا الدور قبل أن يتحسن التعليم. مع ذلك دعنى أقول لك إن هناك أملًا فى المستقبل فى نشر الوعى باستخدام التكنولوجيا الجديدة، وهى الوسائل التى يمكن من خلالها الوصول للقراء. لقد اتسع استخدام الشباب للإنترنت فى السنوات الأخيرة، ما يعنى أن ثمة نقلة حدثت وسيكون لها أثر كبير.
ما الذى تقصده بالوعى هنا؟
الوعى بمعناه العام، بما فيه من ثقافة وإدراك. لقد خلق الإنترنت فضاءً لكل الناس الذين لم يكن لهم رأى من قبل وكانوا يسمون بحزب الكنبة. الإنترنت خلق الفضفضة ومجالًا للكلام، أن يقرأ الناس فهذا إيجابى حتى لو بسرقة كتاب أو تصويره. من قبل كان بهاء طاهر يقول «إننا لا يجب أن ننشر أخبار الكتاب بل أخبار القراء»، ذلك لأن القراء كانوا قليلين جدًا، أما الآن فهناك قراء، وعادة أجد الكثير من القراء حتى عندما تقام ندوة على الإنترنت. يفاجئنى أن الحضور من كل دول العالم، تجمعهم منصة على الإنترنت. يمكن أن نقول إن الإنترنت خلق وعيًا. وهذا ما نحتاج إليه الآن، إلى زيادة الوعى لنرفع رأسنا بعيدًا عن ضغوط الاقتصاد ولقمة العيش ونرى أفقًا أبعد مما تحت أقدامنا. لقد بدأت الحضارة البشرية حين انتصب الإنسان على قدمين.
بالعودة إلى «طبيب أرياف»، يتوقع القارئ بدايةً من العنوان أنها رواية عن طبيب يرحل إلى القرية ليكشف بعينين جديدتين تفاصيل المجتمع الريفي، لكن فى العمق هناك تحدٍ كبير فى اختراق عالم مخترق من قبل. كيف فكرت فى هذا التحدي؟
كنت أريد أن أكتب رواية أنثروبولوجية عن الريف المصرى فى السبعينات، لكنى عندما عدت إليها وجدت قرية لا تزال كما هى على حالتها منذ زمن الفراعنة، يستخدمون نفس الساقية والطنبور، يزرعون ويحرثون بنفس الطريقة القديمة. القديم لم يكن شكل القرية فحسب، وإنما عاداتها وتقاليدها، فالمشاكل التى طرحتها فى الرواية باعتبارها تعود إلى ثلاثين أو أربعين عامًا مضت لا تزال هى مشاكل اليوم، مثل انسحاق المرأة، مثل زواجها ممن لا تحب لأن الأهل قرروا ذلك، والكبار الذين يأكلون ميراث الصغار والنساء. وجدت كذلك الفقر والبطالة، وجدت شبابًا يعبؤون الشمس فى زجاجات، كما يقال كناية عن الفراغ. اللافت أن الفقر عنصر دائم ومستمر ولا يتغير. هناك شيء آخر أشرت إليه كذلك، العلاقة الشائكة بين المسلمين والمسيحيين والتى لا تزال بنفس شكلها وتفاصيلها، بالإضافة للهجرة، كانت من قبل عبر بحر الرمال، ثم صارت الآن عبر البحر المالح. المشاكل لا تزال موجودة حتى الآن، بنفس الشكل القديم، بنفس التناول والانغلاق.
روايتك، بما فيها من كشف وتعرية لعيوب القرية، تتضمن ردًا عما يقال عن أخلاق القرية، أم أنك تعتقد أن هذه العيوب نتجت عن تمدين القرية واكتسابها آفات المدينة؟
أخلاق القرية تعبير صنعه السادات، وشهامة أهل القرية صورة صنعتها دراما أسامة أنور عكاشة، كل هذا غير حقيقي. الصراعات والفقر لا تترك مجالًا للأخلاق، والقرية ملخص للمدينة وهى ملخص للبلد، فقط تكلمت عن أجزاء صغيرة.
يبدو أن ثمة خيطًا ممتدًا من «انكسار الروح» لـ»طبيب أرياف»، رغم الفارق الزمنى الكبير بينهما. هل تتفق معى فى أنها جزء ثان لها؟ وما الذى دفعك للعودة لاستكمال هذا المشروع؟
نعم هى جزء ثانٍ لها، وكان يمكن أن أكتبها بعدها مباشرةً لولا أنى اعتقدت أن الريف غير صالح لكتابة الرواية، فظلت دائمًا كرواية مؤجلة. ثم حين جاءت لحظتها كتبتها، بعد أن راكمت خبرات كثيرة، والحقيقة أن كتابتها الآن أفضل من لو كنت كتبتها قبل ذلك، ما كان لها أبدًا أن تخرج بهذا الشكل. عامل الزمن والتجربة أفادها كثيرًا. فى الروايات الأولى نكتب خبراتنا الصغيرة، ثم مع الوقت والتجربة والتعلم نزداد خبرة.
يبدو الهم الاجتماعى والسياسى همًا رئيسيًا فى كتابتك، وفى «طبيب أرياف» يتجلى نقد السبعينات والثمانينات بشكل واضح. إلى أى مدى ترى أهمية احتواء الرواية على نقد اجتماعى سياسي؟ وإلى أى مدى ترى غياب هذا النقد عيبًا فى الرواية؟
الكاتب يجب أن يكون انتقادى ولا يرضى بالواقع ولا يرضخ له. ربما لا يملك الكاتب قوة التغيير، لكنه يجب أن يرى المستقبل. لذلك، فالكاتب مختلف عن المواطن العادى الذى يستمع لنشرات الأخبار ويصدقها، عادة أسمع الأخبار لا لأعرفها وإنما لأعرف ما وراءها. أحاول الصدق مع نفسي. أذكرك بنجيب محفوظ، كان يكتب الرواية فيكون صادقًا مع نفسه، ثم يضطر لكتابة مقال صغير فى الأهرام يحاول فيه أن يبث الأمل فيما حوله. الكاتب يجب أن يكون صادقًا فى الرواية لأقصى درجة، أرى أن الكاتب يجب أن يكون ناقدًا، وأرى الرواية الخالية من الهم الاجتماعى والسياسى باهتة بلا طعم. لقد عشت سنوات فى الخليج ورأيت هذا النوع من الروايات التى لا تقول شيئًا.
الحب والخيانة والخطيئة مفاهيم رئيسية فى «طبيب أرياف»، وفى النهاية ثمة انتصار للقيم المجتمعية فى مقابل إخفاق للتمرد عليها. كيف تقيم قوة الحب فى مواجهة العادات والتقاليد؟
_ الحب هنا مقهور ومحاط بالعداء وخارج القوانين. فى مصر نكره العشاق، حتى فى الشارع يتعرضون للمطاردة. تحاول الرواية أن تعكس هذا الواقع، حيث الحب مقهور ولا يستمتع بالحياة. مثال ذلك شخصية فرح، الممرضة، وهى فى نظرى لم تكن تسعى لعلاقة جنسية وإنما تسعى للثورة على العقم المحط بها، كانت تسعى لمنح جسدها حملًا وإنجابًا ليواصل حياته الطبيعية التى خلق من أجلها. هناك قراء حكموا عليها أخلاقيًا وكانوا من الذكور، لكن الستات تفهموا دوافعها الشخصية، وكيف يؤثر العقم فى شخصيات المرأة.
وكيف خططت لكتابة هذه الرواية، خاصةً أنها تعود إلى أربعين عامًا مضى؟
لم أخطط كثيرًا، الرواية صغيرة الحجم مقارنةً برواياتى السابقة، لذلك كان التخطيط سهلًا: كتبتها بنفس الترتيب الذى خرجت عليه فى النهاية، وكانت الأحداث حاضرة فى ذهني. هناك روايات أكتبها بشكل ملفات منفصلة، ثم فى النهاية أجمعها وأرتبها وأداوى ثغراتها. هنا لم أعدل كثيرًا، الكمبيوتر يساعدنى جدًا فى ترتيب العبارات والفقرات، قبل ذلك كنت أكتب فى كشكول واجمع الفصول، الآن الكمبيوتر سهّل الحياة، وساعدنى أن استغنى عن فصول كاملة بضغطة زر إن رأيت أنها بلا قيمة. وفى النهاية لا أشعر بالرضى عن عملي، وكلما كان متاحًا تعديل أى رواية أعدلها حتى بعد نشرها، كما حدث فى «انكسار الروح» إذ أعدت ترتيبها وأدخلت عليها بعض التغيرات.
وهل تحدد موضوع الرواية قبل كتابتها، أم تترك نفسك للإلهام؟
عادة أعرف الموضوع بشكل غامض ومضبب، ثم استسلم للإلهام. يبدو الأمر مثل أن ترى المدينة وأنت راكب طائرة، حينها تعرف إطار المدينة لكنك لا تعرف تفاصيلها. حين تنزل وتتجول فيها تتعرف إليها. هذا الاكتشاف يحدث وقت الكتابة. وعند مرحلة ما من الكتابة، تكتب الرواية نفسها بنفسها وما عليك غير اتباعها.
بالإضافة للكتابة الأدبية، ثمة اهتمام واضح بالتاريخ، متى بدأ اهتمامك به، وماذا استخلصته منه؟
 أحب قراءة كتب التاريخ، وأرى أن تاريخ مصر الطويل امتياز يتمتع به الكتاب المصريون، لأننا من الدول القليلة ذات التاريخ الممتد، وهو تاريخ فرعونى قبطى عربى لا يمكن إهماله. والحقيقة أن قراءة التاريخ بدأت معى كهواية بعد نكسة 67، إذ بدأت أتساءل إن كان ما حدث تاريخ حقيقى أم لا، وهل صلاح الدين الأيوبى وأحمس قادة حقيقيون أم من صنع المخيلة الشعبية. دفعنى ذلك لاكتشاف أن ثمة تاريخين: أحدهما التاريخ الكبير الخاص بالملوك، والثانى التاريخ الصغير الخاص بالناس، وهذا ما كنت أود أن أبحث عنه.
وبحثت أيضًا فى التراث العربي، خاصة كتاب «الأغاني».
فتننى كتاب «الأغاني»، لكننى رأيته مفرطًا فى التكرار والخيال، وخطر لى أن أعيد ترتيبه بشكل عقلاني. يتمتع الكتاب بشخصيات قوية وطرائف ثرية وشعر. وفى كتابى «شخصيات حية من كتاب الأغاني» حاولت أن أقدم للقارئ كتابًا يستطيع الاستغناء به عن الكتاب الكبير.