حديث الأسبوع

العلماء لا يملكون غير السيناريوهات

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

الحقيقة الوحيدة الثابتة لحد اليوم تكمن، مع كامل الأسف، فى أن فيروس كورونا استطاب المقام بين الشعوب والأمم، و لا أحد، بمن فى ذلك العلماء المتخصصون، يملك الجواب النهائى للسؤال المتعلق بعمر هذا الوباء، لاعتبارات كثيرة ومتعددة، ترتبط من جهة بالغموض العلمي، الذى يكتنف مصير الفيروس الذى يتميز بقدرة فائقة على التناسل، وبالإشكاليات المستعصية المرتبطة بإنتاج اللقاحات وتوزيعها على شعوب العالم بما يحقق المناعة الجماعية، و من جهة ثانية بالسلوك البشرى فى مواجهة الجائحة، حيث تعمق الشعور باليأس والقنوط من الإجراءات الاحترازية الكثيرة التى حدت من حرية الأشخاص، ومن الخسائر المالية الفادحة التى ترتبت عنها لحد الآن، و التى قطعت الأرزاق عن العباد والبلاد، ناهيك عن حالات التراخى واللامبالاة التى حكمت سلوك الأفراد و الجماعات بعدما طال أمد التحيط والحذر من الوباء، و لذلك فإن الثابت إلى الآن يؤكد أن وضعية الغموض و الالتباس ستستمر لزمن آخر لا يعلم أحد مداه .
كل ما يملك الخبراء حاليا، هو التعامل مع زمن الوباء بسيناريوهات و احتمالات كثيرة ومتعددة ، مما يعنى القبول بمواصلة العيش فى ظل الإكراهات المترتبة عن الجائحة. و فى هذا الصدد تفاعل فريق من العلماء المتخصصين مع السؤال المتعلق بالعمر الافتراضى للفيروس فى مقال نشر مؤخرا فى مجلة (نيتشر) البريطانية، و هى إحدى أبرز الدوريات الأسبوعية العلمية المتخصصة فى العالم، و صدر العدد الأول منها نهاية سنة 1869، بكثير من الواقعية، حيث أبدوا منسوبا عاليا من التفاؤل حينما جزموا بأن الوباء، مهما كانت الظروف والمعطيات، ستتم السيطرة عليه فى النهاية بفضل الجهود العلمية العالمية التى تبذلها العديد من الأوساط، خصوصا فيما يتعلق باللقاحات. لكن مع ذلك ستظل هناك تطورات و شكوك لا يمكن التنبؤ بها فى الوقت الحالى . وطرح فريق العلماء ثلاثة سيناريوهات متعلقة بمصير الوباء. أولها مثير للقلق، حيث لن تكون البشرية قادرة على السيطرة على الوباء بقدر كاف من السرعة، وفى ضوء ذلك يمكن الاستمرار فى التعامل مع مسارات عنيفة للمرض مع تسجيل معدلات إصابة مرتفعة. أما السيناريو الثاني، و هو الأكثر ترجيحا فى نظر هؤلاء العلماء، و يتمثل فى أن الفيروس سوف يصبح مرضا موسميا، كما الشأن بالنسبة لباقى الأمراض الناتجة عن فيروسات أخرى. و فى هذه الحالة فإنه من الممكن أن تساعد العلاجات الفعالة، من قبيل الأجسام المضادة التى يتم تصنيعها فى المختبرات، فى الحد بصورة كبيرة من قوة و شراسة الوباء، مما يخفض بشكل كبير جدا من معدلات الولوج إلى المستشفيات، والوصول إلى أقسام الإنعاش، و فى أعداد الوفيات، مذكرين فى هذا الصدد بأن الأنفلوانزا العادية، التى قد تبدو غير ضارة بالنسبة إلى البعض، مازالت تتسبب فى مئات الحالات من الوفيات التى يتم تسجيلها سنويا فى جميع أنحاء العالم. فى حين يرى فريق العلماء بالنسبة للسيناريو الثالث، و هو الأكثر تفاؤلا، بأن فيروس كورونا سيتحول إلى مرض بأعراض أقل حدة، لا يختلف عن باقى الفيروسات الموجودة أصلا والمنتمية إلى نفس العائلة، والتى قد تتسبب فى حدوث أمراض عرضية ، مثل نزلات البرد، و بذلك يفقد الفيروس شراسته و يصبح قابلا للتعايش معه كما هو الحال مع كثير من الأمراض، و يكفى لذلك التوفر على الحد الأدنى من العلاجات المتوفرة .
و يكرس فريق العلماء هذا السيناريو الأكثر تفاؤلا بالتأكيد على أنه لحد الآن ظهر فقط عدد محدود نسبيا من تحورات فيروس كورونا، بصورة مستقلة عن بعضها البعض فى سلالات متعددة، مما يؤشر على حدوث تطور متقارب، و ربما مقيد، لهذا الفيروس . وهو الرأى الذى سانده علماء آخرون، حينما أكدوا بدورهم، أنه من وجهة نظر علمية مرتبطة بعالم الفيروسات ، فإن هناك أسبابا وجيهة لافتراض أنه ليس لدى فيروس كورونا ما هو أكثر مما استطاع إظهاره لحد الآن، و فى ضوء ذلك فإنه سيصبح فيروسا عاديا يعيش إلى جانب باقى الفيروسات. لكن هذا الرأى يكبح جماح التفاؤل المفرط حينما يقرن بإمكانية وجود مرحلة انتقالية فى عمر الفيروس قد تمتد من سنتين إلى أربع سنوات، و أن الفيروس قد يستغل بعض الفجوات التى ترتبط بمعدلات التلقيحات فى العالم .
الأكيد فى ضوء كل ما سبق، أن الفيروس سيواصل العيش فى أوساط البشرية جمعاء، و فى مختلف أنحاء العالم، على الأقل فى المدى المنظور، بما يعنى استمرار الخسائر والتكاليف البشرية والمالية والنفسية المترتبة عن ذلك، و يبقى الأمل الوحيد فى جعل مدة إقامته يتمثل فى تحقيق المناعة الجماعية، و هذا الهدف مرتبط بإشكاليات أخرى تبدو لحد الآن فى غاية الاستعصاء، و تهم، من جهة تحقيق إنتاج كمية مرتفعة من اللقاحات ، و ضمان توزيع عادل و شامل لهذه اللقاحات من جهة ثانية، حيث إنه لا يكفى ضمان المناعة القطرية على مستوى البلد الواحد، بل لا بد لتحقيق فتح شرايين العلاقات الدولية، الاقتصادية منها والاجتماعية، من تحقيق المناعة العالمية، و هذه من أكبر الإشكاليات التى لا يملك أحد الجواب عنها، لأن مفهوم المناعة القطرية، الذى لا يعنى فى نهاية المطاف غير تحقيق المصلحة الوطنية أولا، هو المتحكم فى سلاسل إنتاج اللقاحات وطرق توزيعها. ولعل هذا ما دفع بعض الحكومات المتفطنة إلى التفكير فى إنتاج اللقاح داخل أوطانها فى القريب العاجل، لتحقيق السيادة الوطنية اللقاحية، والتحرر من إكراهات وصعوبات الحصول عليها من السوق الدولية، خصوصا أن الفيروس قد استطاب فعلا المقام بين ظهرانينا .
< نقيب الصحافيين المغاربة