عاجل

أول سطر

أصالة ودفء الريف

طاهر قابيل
طاهر قابيل

رحمة الله على أبى وأمى وجدى وجدتى، فقد كانت زيارتى طفلاً لقريتنا فى الإجازة الصيفية استراحة نفسية ومتعة لا توصف، ونحن نستمتع بحياتنا الأصيلة والتلقائية، ونتخلص من همومنا وقيود المدينة مع أسرتنا الكبيرة، ونلمس عن قرب النقاء والطهارة وحياة الريف.
لم يخطئ الرحالة الفرنسى عندما قال إنه لو كان لإنسان الخلود فللفلاح المصرى.. فعندما كنا أطفالاً نلهو ونلعب، كانت جدتى تجهز طوال العام لبناتها الثلاث اللاتى يحضرن صيفاً بأولادهن لأنهن يعشن فى القاهرة والبحيرة. أعداد من «الزَّفر» من بط وأوز وحمام.. وتسمى كل مجموعة بعلامة مميزة تحت اسم البنات وأسرهن.. بالإضافة إلى إحضار «حصتهم» اليومية أو الأسبوعية من اللبن، وكميات الخبز «الطازج» بنار الفرن «البلدى»، والذى يخبز وبجواره «أكواز» البطاطا والذرة المشوى، والطواجن على كل «شكل ولون»، والتى تبدع فى تصنيعها مع الأرز «المعمر»، وتعد «ولائم» من الجبن «القريش» والبيض المقلى بمذاقها المختلف الذى استطعم حلاوته إلى الآن، واللبن الرايب والقشدة والزبد، وغيرها من خيرات «ريف زمان».
كان «جدى» يترك لنا «العنبية» وشجرة التوت فى مدخل منزله.. وأشجار الجوافة والتين وشجيرات الخضراوات من طماطم وباذنجان وخيار وغيرها بالحقل أو «الغيط» لنأكل منها طعاما طازجا عندما نقضى يومنا معه، بعد أن نتناول طعاما بسيطا فى «الغداء » انتظاراً لوجبتنا الرئيسية وهى «العشاء» عندما نعود «للدوار»، ومعنا «المواشى» بعدما تناولت طعامها وشربت المياه قبل نومها وعودتها «للزريبة».. كانت تجمعنا وجبة «دسمة» تغطيها الذبائح من لحوم أو طيور وطواجن الأرز، ونتبادل القفشات والضحكات.. لتتحول جلستنا بعد ذلك إلى «المصطبة» أمام المنزل.. لتبدأ حفلة «تسامر» مع أهلنا وأقاربنا وجيراننا، للتحدث فى شئوننا، ونختمها بالحواديت والنكات والألعاب لنستعد بعد هضم الطعام للنوم، بعد أن كنا قد صلينا الفروض الخمسة فى أوقاتها سواء بالمسجد أو فى البيت أو «الغيط »، لكى يستيقظ كل البيت مبكرا مع أذان «الفجر»، ليخرج كل الفلاحين إلى حقولهم مع بزوغ ضوء الشمس، ولا يعودون إلا مع «العصارى» واقتراب وقت «الغروب»، بعد أن قضوا نهارهم فى رعاية الأرض والمزروعات وتنظيفها من الحشائش والآفات إن وجدت.
أحيانا كانت متعتنا أن نشاركهم فى جنى المحصول أو بالذهاب إلى «الطاحونة »، أو صيد الأسماك من الترعة و«المروة».. فالحياة فى القرية أو الريف متعة لأنه مجتمع بسيط غير معقد.. ويتمسك بكبير «العائلة» ويحترمه، حتى أننى رأيت أناساً عندما يركبون «دابة» أو «عجلة» ويمرون بجوار «الكبار» ينزلون ليسيروا على أقدامهم.. وكانت كلمة «الكبير» تحترم ولا رد عليها.. كانت حياتنا فى القرية رغم أننى لست من سكانها تلقائية، شوهتها المبانى والتعدى على الأراضى الزراعية، وانتشار «السوبرماركت»، ومحلات الطعام الجاهز، والتسابق إلى الأفران.. فقد أدخلت عادات وسلوكيات أتمنى أن يتخلص منها، لتعود لنا الأصالة والإحساس بالدفء.