الجمهورية الجديدة.. تسارع هنا وتباطؤ هناك

طارق عبيد
طارق عبيد

بقلم: طارق عبيد

تتلخص نظرية العقد الاجتماعي في العلوم السياسية في تخلي افراد اي مجتمع طوعا عن بعض حرياتهم و حقوقهم لحاكم او نظام او مجموعة اشخاص وذلك لحماية وصون باقي حقوقهم من خلال اتفاق او عقد يمثل فلسفة العلاقة بين الحاكم و المحكوم، يرى توماس هوبز وهو احد اهم منظري نظرية العقد الاجتماعي انا الحياة الانسانية سوف تتحول لحالة من الحيوانية في غياب النظام السياسي والقانون وسوف تكون هناك حرب الكل ضد الكل بما فيها حرية النهب والقتل والفوضى واستباحة حقوق الغير.

مرت مصر في تاريخها المعاصر بأشكال مختلفة للعقد الاجتماعي تباينت فيها الحقوق والحريات سلبا وايجابا، من العصر الملكي حيث عاش المصريين رعايا في اقطاعيات الحاكم وانحسرت الحقوق والحريات في طبقة وحيدة مع هامش ضئيل من عطايا الحاكم لباقي الطبقات، ثم تحولت مصر للجمهورية بعد ثورة يوليو التي اعادت رسم العقد الاجتماعي في اطار اشتراكي يتماشى مع تلك الفترة التي اتسمت بالسعي للتحرر من الاستعمار والنظم الني تمثله واعادة مقدرات الشعوب لأصحابها، ورغم طوباوية الفكر الاشتراكي الا انه لأسباب كثيرة غير قابل للتطبيق او للاستمرار بمعنى أكثر دقة.

انتهت تجربة الجيل الاول من يوليو نهاية مريرة انهارت الخدمات وتفكك البناء الاجتماعي والسياسي للدولة بنكسة يونيو، وسقط العقد الاجتماعي المبني على شرعية يوليو لينتقل لعقد اجتماعي جديد مبني على شرعية جديدة وهي شرعية نصر أكتوبر اختلفت فيه المفاهيم والحقوق لتشكل نقيض ليوليو، أحزاب أو منابر سياسية بديلة للنظام الواحد  شكلا وان ظلت الممارسة السياسة واحدة مضمونا، انفتاح اقتصادي و سياسي اشبه "بتجارة الشنطة" في المفهوم الشعبي حيث بيع كل شيء واي شيء بلا ضوابط او معايير، اضطرب العقد الاجتماعي و اوشك على الانهيار وانتهى نهاية مأساوية بمقتل الرئيس السادات.

لكن العقد الاجتماعي الأغرب كان في فترة حكم الرئيس مبارك، اتفاق ضمني بين الحاكم والمحكوم على تخلي كل منهما عن دوره، انسحبت الدولة من القيام بدورها الرئيسي في حماية الحقوق وتحسين الخدمات و تخلى المواطن عن دورة في الوفاء بالتزاماته القانونية تجاه الدولة فتحولنا الى شبه دولة و اشباه مواطنين بلا حقوق و بلا مسؤوليات حتى اختل البناء الاجتماعي والسياسي والطبقي. كانت النهاية كارثية فوضى عارمة ضربت نظام الحكم و اضطراب في انتماء مواطنين انقطع الحبل السري بينهم وبين دولتهم فكادت فوضى يناير ان تطيح بالجميع حكاما ومحكومين.

الجمهورية الجديدة وعقدها الاجتماعي:

رغم أن بنية النظام السياسي الحالي تمثل امتداد طبيعي لنظام يوليو إلا انه جاء بعقد اجتماعي مختلف اعتمد في تكوينه على شرعية 30 يونيو، هذا العقد الاجتماعي اعتمد المصارحة و العلاج الجراحي لازمات الدولة المنهارة معتمدا على عمل دؤوب لا ينقطع وشرعية يمكن تسميتها شرعية الإنجاز، ورغم قسوة اجراءات الدولة في تصحيح مسارها الا انه حظى برضا شعبي شكلته حالة من الوعي العام التي حثت بعد 30 يونيو نتيجة انكشاف الكثير من المؤامرات وسقوط الكثير من الشعارات السياسية والدينية والاقتصادية وتعرض الدولة لمخاطر هددت وجودها، هذا الصبر الشعبي والتخلي عن بعض الحقوق في مقابل الحفاظ على الدولة واستعادة وجودها شكل قلب العقد الاجتماعي بين النظام الحالي والمواطنين.

تسارع الإنجاز في ملف الاصلاح الاقتصادي و تحسين البنية التحتية وإعادة ترميم الامن القومي المصري بمفهومه الشامل على مستوياته المختلفة داخليا وخارجيا، ثم إعادة هيكلة الدعم بالشكل الذي يضمن وصوله الى مستحقيه و اعادة ضبط البناء الطبقي للمجتمع وفق القيمة الحقيقة للسلع والخدمات، لكن هذا التسارع و الانجاز قابله تباطؤ وتراجع في ملفات أخرى فلم تكن الخدمات المقدمة تسير بنفس وتيرة وقسوة الاصلاح الاقتصادي فأصبح المواطن بين مطرقة ظروف اقتصادية عنيفة و سندان تردي في الخدمات المقدمة نتيجة تباطؤ في عملية التحول الرقمي والتأخر في اعادة هيكلة النظام الاداري للدولة.
لكن الاهم والأخطر هو تراجع الدولة مرة اخرى وانسحابها من دورها الاهم كمنظم لحركة الناس وضامن لحقوقهم فتركت معظم طبقات المجتمع  وخاصة طبقته الوسطى التي تدفع معظم دخلها في خدمات تعليمية وصحية مكلفة لكنها بلا جودة او رقابة او حماية من الدولة ، و فوضى عارمة تضرب الشارع في ظل غياب امني غير مفهوم وغير مقبول يهدر الانجاز والموارد ويشكل عبئ نفسي واجتماعي على المواطنين  وغياب تام للمحليات بالشكل الذي يعيد للأذهان نهايات عصر ما قبل يناير.

وكي نكون ايجابيين فلن نكتفي بمجرد الإشارة الى اوجاع الناس السلبيات الموجودة لكننا سوف نشير الى بعض الحلول التي قد تسهم في تحسين الاوضاع وصيانة السلم الاجتماعي- تشكيل قوة شرطية جديدة مختصة بأمن الشارع تعتمد التكنولوجيا المتقدمة و الحركة السريعة في توفير الامن و تحقيق السيولة والانضباط المروري في الشارع بشكل فعال يمنع الفساد والفوضى ويعاقب المخالف بشكل فوري ورادع.

- تفعيل وهيكلة المحليات والإسراع بإجراء انتخاباتها لضم دماء جديدة شابة قادرة على الرقابة والمحاسبة واستعادة وهج الرقابة الادارية في مراجعة المشروعات المنفذة لوقف أي هدر أو فساد أو سوء إدارة.

- رقابة الدولة على الخدمات الخاصة من تعليم وعقارات وصحة بالشكل الذي يحقق العدالة بين القيمة والجودة.

 -إعادة بناء نخبة سياسية حقيقية تكتسب ثقة الناس وتعبر عن تطلعاتهم وأوجاعهم وتضمن مرونة الدولة ونظامها السياسي بالشكل الذي يجنبنا الصدمات او التحولات السياسية الحادة.

هذه الاقتراحات يمكن نقاشها وتطويرها بشكل أعمق تحت مظلة 30 يونيو بما يضمن الحفاظ على عقدها الاجتماعي ويجدد حالة الوعي والوهج الوطني و يصون الانجاز لنكمل بناء دولتنا القوية العفية لأننا لا نملك الا هذا المسار و لا نتحمل انكسارات جديدة في وقت زادت فيه المخاطر وندرت الفرص واصبح وجود الدول  نفسه على المحك. اثق في وطنية الادارة الحالية ثقة مطلقة و اقدر لها مجهودها الرهيب في الحفاظ على الوطن و اثق ايضا في سعة صدرها وتفهمها لتطلعاتنا ومصر دائما وابدا من وراء القصد..