يوميات الأخبار

إنه قلم عبد الناصر

داود الفرحان
داود الفرحان

أصدرت محكمة إسرائيلية حكماً بإعدام ثلاث مطربات عربيات هن أم كلثوم من مصر وسليمة باشا مراد من العراق وسهام رفقى من سوريا

روى على صالح السعدى رئيس وزراء العراق الراحل فى الفترة من 8 فبراير 1963 إلى 18 نوفمبر من العام نفسه إنه خلال إحدى جلسات محادثات الوحدة بين العراق ومصر فى القاهرة، فى تلك المرحلة، جلس الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ووضع أمامه على الطاولة قلم حبر ذهبياً وبجانبه ولاعة سجاير رائعة الجمال وكان عبد الناصر يستعمل هذا القلم ويكتب به بعض الملاحظات خلال النقاش، وفى لحظة من اللحظات وبينما كان يتحدث مددتُ يدى وأخذتُ القلم من أمامه وكتبتُ به شيئاً ما ثم وضعته فى جيب قميصى، ولم يبدر من عبد الناصر أى رد فعل، وتظاهر بأنه لم ير شيئاً أو يلحظ  شيئاً، بل استمر مسترسلاً فى حديثه وبعد فترة مددت يدى مرة أخرى وأخذت الولاعة، وهى التى كانت هدفى فى الأصل والأساس، وأشعلتُ بها سيجارة ثم وضعتها أمامى فوق علبة السجاير ومرة أخرى تظاهر الرئيس عبد الناصر رحمه الله بأنه لا يرى شيئاً أو يلاحظ شيئاً، لكنه مدّ يده بهدوء وأخذ الولاعة وأعادها إلى مكانها أمامه، وارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة، ومضى مسترسلاً فى حديثه وكأن شيئاً لم يكن ، وأضاف على صالح السعدى: «وعندئذ فهمتُ أن جمال عبد الناصر موافق على إعطائى القلم فقط وعليه إذا قلتُ إن جمال أعطانى القلم فهو صحيح، وإذا قلتُ إنى أخذت منه القلم فذلك صحيح أيضاً، لكنه لم يقدمه لى هدية».


كان على صالح السعدى الأمين العام لحزب البعث فى العراق، وهو نائب رئيس الوزراء عصبى المزاج، يخلط بين الجدل والهزل، ولا يجيد السياسة لكنه يفهم لغة المظاهرات وشارك فيها، والانقلابات وقادها. 


وبعيداً عن السياسة كان الرجل شجاعاً واجتماعياً وصريحاً وصادقاً ومتواضعاً ويذكر رفاقه أنه كان يجلس فى المقاهى الشعبية ويتناول الكوارع  فى مطعم الحاتى فى شارع الشيخ عمر وسط بغداد الذى يزدحم بورش تصليح السيارات والآلات الزراعية، ويتمازح مع العمال الذين لم يكونوا يعرفون نشاطه السياسى ولا يتوقعون أنه قائد أهم حزب معارض ف العراق فى تلك السنوات الساخنة وحتى مع تسلمه أعلى المناصب الوزارية فى العراق بعد تولى حزب البعث السلطة فى عام 1963 وإعدام اللواء عبد الكريم قاسم ومطاردة الشيوعيين كانت زوجته السيدة هناء العمرى من أنشط الصحفيات فى وكالة الأنباء العراقية وحين أطاح المشير عبد السلام عارف فى 18 نوفمبر بحكم حزب البعث اكتفى عارف بتسفير قيادات حزب البعث إلى إسبانيا، وكان السعدى ضمن المُرحلين بعد انشقاق الحزب إلى أكثر من جناح. 


وجدت أن المقال يستدعى التعريف بالشخص «الظريف» الذى تجرأ على أخذ قلم حبر جمال عبد الناصر من أمامه ووضعه فى جيب قميصه فخطوة مثل هذه، تحتاج رجلاً بعفوية السعدى التى ترفع «التكليف» مع الآخرين ببساطة، لكنه هذه المرة تمادى مع رجل اختارته مجلة «تايم» الأمريكية أكثر من عشر مرات ليحتل صورة الغلاف. 

رهان على قلب النظام العراقى


لكن حكاية القلم لم تنته، بل دخلت تاريخ على صالح السعدى وحزب البعث بعد أن رواها القيادى البعثى الأردنى محمد الريماوى فى مذكراته ، ففى صيف 1962 عُقد المؤتمر القومى الخامس للحزب فى مدينة حمص السورية بعد انفصال الجمهورية العربية المتحدة، فى بيت مواطن سورى للهرب من الشرطة وكان الهدف الأول إسقاط نظام عبد الكريم قاسم فى بغداد، لكن الاجتماع انشق إلى جانبين، الأول يرى ضرورة الإسراع بقلب نظام الحكم العراقي، والثانى يدعو لإجراء جملة من الإصلاحات التنظيمية والفكرية والعملية داخل الحزب قبل الاستيلاء على السلطة ، تزعم الفريق الأول على صالح السعدى، وتزعم الفريق الثانى عضو القيادة القومية للحزب فيصل حبيب الخيزران، والإثنان عراقيان وبعد ساعات من التنظير المعهود وقف السعدى قائلاً للطرف الآخر: «إن النقاش معكم انتهى، وسنقوم بالثورة» وكأنه سيقوم بسفرة سياحية ولم يستسلم زعيم الجانب الآخر، فقرر تحويل الأمر إلى ما يشبه المقامرة، قائلاً: تعالوا نتراهن، نحن نقول لكم إذا قمتم بالثورة فسوف لن تستمرون فى الحكم أكثر من ثلاثة أشهر وبعدها تسقطون وتفشل التجربة نحن سنراهن على دينار عراقى واحد جديد وغير مستعمل يوقعه الخاسر اعترافاً منه بسوء تقديره ويحتفظ به الرابح.

إنه قلم عبد الناصر


بقية القصة معروفة، إذ استمر الحكم تسعة أشهر فقط ثم انقلب عبد السلام عارف على البعثيين وبعد ذلك بأسابيع التقى فى موسكو السعدى قادماً من إسبانيا مع مجموعة من أنصار الخيزران وجاء ذكر دينار الرهان، فقال السعدى إنه لا يملك ديناراً عراقياً الآن ولكنه سيقدم بدلاً عنه قلم حبر ذهبياً استغرب الحضور فقال لهم السعدى: إن قيمة هذا القلم معنوية ورمزية وأكبر من كل الدنانير، فهذا قلم جمال عبد الناصر! 

إعدام ثلاث مطربات عربيات


فى يوم 15 يونيو 1949 أصدرت محكمة إسرائيلية حكماً بإعدام ثلاث مطربات عربيات هن أم كلثوم من مصر وسليمة باشا مراد من العراق وسهام رفقى من سوريا والتهمة التى تمت بموجبها محاكمتهن غيابياً هى تحريض الجماهير العربية لكراهية الصهيونية وإسرائيل. 


ونشرت الحكم صحيفة «البلاغ» القاهرية فى عددها الصادر يوم 6 يوليو 1949 والأغنية موضع الاعتراض هى «سلوا قلبى» للشاعر أحمد شوقى وألحان رياض السنباطى وغنتها لمناسبة المولد النبوى وبيتا الشعر اللذان أثارا حنق الصهاينة أثارا أيضاً غضب المحتلين الإنجليز فى مصر ودفعا الشعب المصرى إلى الهتاف بهما فى المظاهرات وهما: وما نيل المطالب بالتمني.. ولكن تؤخذ الدنيا غلابا.

وما استعصى على قوم منال.. إذا الإقدام كان لهم ركابا».
أما المطربة العراقية سليمة باشا مراد فهى يهودية العرق واعتنقت الإسلام ورفضت الهجرة إلى فلسطين المحتلة، وهو سبب الحكم عليها بالإعدام وكانت متزوجة من ناظم الغزالى وهو أحد أشهر المطربين العراقيين فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى ،ومن أشهر أغانيها: «هذا مو إنصاف منك غيبتك هالقد تطول»، و»قلبك صخر جلمود».


واشتهرت فى الأربعينيات الممثلة والمطربة السورية سهام رفقي، وغنت للجيوش العربية فى دفاعها عن فلسطين ومثلت فيلمين فى مصر هما «ألبريمو» و»عودة الغائب» مع محمود المليجى ومارى كوينى ومن أشهر أغانيها فى كل الإذاعات العربية «أم العباءة» و«حوّل يا غنام»، و«شارياك»، و«لولا الغرام حاكم»، وقد عاشت فترة طويلة فى العراق ثم انتقلت مع ابنتها إلى إسبانيا حيث توفيت فى عام 2007.


طبعاً غنى المطربون والمطربات العربيات بعد ذلك أروع الأغانى الوطنية وفى مقدمتهم أم كلثوم وفيروز ومحمد عبد الوهاب وسيد درويش وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وفايدة كامل وشادية وسعدون جابر وكاظم الساهر وحاتم العراقى ونجاح سلام ووديع الصافى ومئات غيرهم. 


سؤال إلى دار الأوبرا المصرية: ألا يستحق يوم 15 يونيو 1949 أن نخلده فى مهرجان كل عشر سنوات للأغنية العربية الوطنية؟ .

مبدعة اسمها شريفة الشملان


أعرف الكاتبة والروائية السعودية شريفة الشملان منذ عام 1964، يعنى منذ أكثر من نصف قرن كانت معنا فى قسم الصحافة فى كلية آداب جامعة بغداد كل من عرفها احترمها فهى مثالية فى الأخلاق والتواضع والحشمة والدراسة لم تكن لها أى مشاكل مع الأساتذة ولا مع زملائها العراقيين الذين احترموها من أول يوم عرفوها فيه، فهى أول من يدخل إلى قاعة الدرس وآخر من يخرج بعد فترة قصيرة عرفنا أنها من المملكة العربية السعودية، وكانت تقيم مع أهلها فى قضاء الزبير العراقى التابع لمحافظة البصرة، ثم انتقلوا إلى البصرة التى بناها عتبة بن غزوان فى عهد الخليفة العادل عمر بن الخطاب عام 14ﻫ عند ملتقى نهرى دجلة والفرات تخرجنا من الكلية فى عام 1968 وانقطعت أخبار الزميلة شريفة وعرفنا بعد سنوات أنها تزوجت من رجل فاضل وتقيم فى المملكة وتكتب قصصاً وروايات ومقالات صحفية وتعمل فى مجال الخدمة الاجتماعية، وبرعت فيه ونالت جوائز تشجيعية زارتنا فى عام 2007 فى شقتنا فى مصر الجديدة مع زوجها الفاضل وابنتيها كانت حريصة على أن ترسل لى مقالاتها فى جريدتى «الرياض» ثم «الجزيرة» وكنت أشجعها على عدم التوقف عن الكتابة، فالكتّاب لا يتقاعدون حين توفت مؤخراً الشاعرة العراقية الكبيرة لميعة عباس عمارة كتبت لى السيدة شريفة: «اللهم يرحمها ويغفر لها، كانت رائعة كشاعرة وإنسانة» من كتب الشملان «الليلة الأخيرة» و«طفلة تسبح فى نهر» و»مدينة الغيوم» و«ليلة نام السهر» و«وغداً يأتي» لقد رحلت شريفة الشملان المؤمنة الطيبة المتفائلة والموهوبة والجريئة فى المطالبة بحقوق المرأة السعودية.. رحمها الله.

فانوس
قال الزعيم الهندى المهاتما غاندى: 
«رمانى الناس بالحجارة فجمعتَها وبنيتُ بيتاً»!