رحيل أبو ذكرى.. زاهد المناصب

ممدوح الصغير
ممدوح الصغير

أعرفه منذ ثلاثين عامًا، كنت عشرينى العمر، قادمًا من  الجنوب وبأسلوبه البسيط القريب للفكاهة   خطفنى، وتوطَّدت   علاقتى مع الرائع  محمد أبو ذكرى، الذى رحل عن عَالمنا فجأةً، ويُعد رحيله جرس إنذارٍ لنا جميعًا، لأن نزهد سباق الدنيا، حيث تركنا نتصارع ونغرق فى بحورها، ففى غمرة  صراعات الدنيا لمن يعرف، صعدت روحه الطاهرة للسماء. 

باعدت الدنيا بيننا أحيانًا، وقرَّبتنا المواقف لحظات  كثيرة.. ومنذ عدة أسابيع  التقينا معًا، فى جلسةٍ مطوَّلةٍ، حضرها عددٌ من  الزملاء، روى فيها حكايات من الماضى عنه، هُدِّد فيها بالفصل من عمله، ولكنه لجأ لباب الله، فنجا من الفخ الذى أُعد له، وعندما حصل على مستحقاته كاملةً، قرَّر بناء مسجدٍ وعد به والده قبل وفاته، رغم معارضة البعض له، لأن المال الذى سوف يُنفقه فى بناء المسجد أولى به  أسرته، لكنه رفض نصائح الجميع.. لم يعشق الدخول فى صراعات الدنيا للفوز بمنصبٍ، وشعبيًا فقد حصد الراحل ما يُريد، فقد كان عضوًا بالجمعية العمومية على مدار دورتين، وعضو مجلس إدارة، كما كان أداؤه فى الجمعية العمومية رائعًا، إذ دافع عن حقوق زملائه، ولم يتربَّح من عضوية الجمعية العمومية أو مجلس الإدارة، وكل مطالبه كانت تكمن فى الحفاظ على حقوق الزملاء وفقط.

 الراحل أبو ذكرى قريبٌ من الله، قلبه فى وصالٍ دائمٍ مع خالقه، روى قصة أول حجةٍ له  للأراضى المقدَّسة، يومها  لم يكن معه نفقات السفر، ولكنها دعوةٌ من الخالق له، ففى لحظةٍ  وجد مستحقات له تظهر  فجأةً لم تكن ضمن حساباته.. خلال وجوده بمطار القاهرة، كان  ينتظر طائرته التى سوف تُقلع بعد عدَّة ساعاتٍ، وفجأة دخل كبار  المسئولين، رآهم وهو جالسٌ فى الصالة، ولم يتوقَّع بأنه سوف يُسافر  على طائرة بها كبار رجال الدولة، ولظروف   ضغط الرحلات، تم إخباره بأنه سوف يُسافر على الطائرة التى سوف تُقلع بعد دقائق، اغرورقت عيناه بالدموع، إنه كرمٌ من الله بأن تكون زيارته للأراضى مُيسَّرة من الخالق دون سابق ترتيبٍ.

كل ما مر به داخل موسم  الحج، حسب الراحل، مواقف تُؤكِّد أن بينه وبين الرحمن خبيئةً، ربَّما     كلماته الساخره لا تُعطى إحساسًا لمن لا يعرفه بأنه قريبٌ من الله   بدرجةٍ كبيرةٍ، فقد عُرف عنه أنه عنيدٌ، لم يُهدر كرامته، ولم يسعَ   لمسئولٍ حتى يظفر بميزةٍ، كلماته تخرج دون مونتاجٍ، ولأن كبار القيادات الصحفية فى مؤسسة أخبار اليوم كانت تعرفه عن كثبٍ، لم تغضب لآرائه الحادة، فهو بوجهٍ واحدٍ لا يعرف التلوُّن.

 عاش الراحل فى جزيرة الزهد راضيًا بحاله، لم يشغله تفوُّق مَنْ بدأ معه، كان يُراهن على علاقته القوية مع الخالق، عندما  تسأله عن حاله، يُقبِّل يديه على نعمة الرضا.. 

 رحم الله صديقى أبو ذكرى، رحل عنا؛ ليُبكى قلوبنا، وليتجدَّد حُزننا من جديدٍ؛ بسبب أعزاءٍ فقدناهم، خلال السنوات الماضية، رحم الله   الجميع، وهَدى من بقى حيًا.