الكلام على إيه.. احتاااار

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

اشرف هلال صاحب كتاب الكلام على إيه

وانا صغير.. ومش حانكر ان ده كان من زمان.. كنت ساعات باعمل مشوار من المهندسين لمصر الجديدة ب ٣ مواصلات.. اتوبيس من المهندسين للتحرير، واتوبيس تانى من التحرير لغمرة وبعدين مترو من غمرة لمصر الجديدة.. وعند محطة مترو غمرة، اتعلمت درس مهم عن الأولويات والفتن والشهوات؛ كان فيه عربية سودانى بتقف على محطة غمرة، عليها مدخنة، تبعث فى الأجواء برائحة تجرى الريق وتوقظ مواطن الفتنة فى النفس.. فى بعض المرات كان بيبقى كل اللى فى جيبى نص جنيه.. وده كان بيدينى واحد من اختيارين، يا إما اركب المترو واسيب السودانى السخن على المحطة لوحده، يا إما اشترى قرطاسين لب وسودانى بتمن التذكرة، واخدها على رجلى من غمرة لمصر الجديدة، مشى وقزقزة!
فرحتى بحرية الاختيار بين البدائل، كانت لا تقل عن فرحتى باللب والسوداني.. وجود عدد من الاختيارات فى مواقف زى دى نعمة، بننساها من كتر ما احنا متعودين عليها، لما بتأمل فيها بلاقيها نموذج مصغر لأهم مميزات الكائن البشري! ولما بافتكرها بتخلينى ممتن ومبسوط.. فى القرارات اليومية الصغيرة، حتى لو دايما باختار بديل معين، عمليا اسمى برضه باختار.
حرية الاختيار جزء أساسى من تكوين الانسان واتزانه النفسي.. بتحققله الشعور بالاستقلالية والتحكم فى حياته، والحافز للمواصلة.
نفس الانسان ده بقى بعبطه، تصور فى وقت من الأوقات إن وجود عدد أكبر من الاختيارات والبدائل حتحققله بالتأكيد سعادة اكتر وسخّر كتير من موارد الكوكب والجهد والطاقة لتحقيق ده؛ صنع حضارة جديدة مبنية على فلسفة الرفاهية والاختيارات الكتير.. عمل لبس كتير عشان يختار يلبس ايه.. ومطاعم واصناف كتير عشان يختار ياكل إيه.. ومحلات كتير عشان يختار يشترى منين.. وبنى بيوت كتير وعمّر أماكن كتير، عشان يختار يسكن فين ويتفسح فين.. واشتغل ساعات كتيرعشان يجيب فلوس كتير ويختار يصرف فى إيه، ده طبعا تسبب فى نتايج إيجابية واضحة فى التقدم والازدهار! ولكن.. ولكن!
من كتر الزحمة، الواحد فينا بقى بيصحى سامع صوت العالم بيناديه بيقوله «احتار».. وهو عشان مش مركز بيسمعها «اختار».. النقطة وقعت من عالكلمة ووقع معاها الشعور بالرضا والاستقلالية والشبع!
كتر الاختيارات والبدائل اللى كان المفروض يزيد السعادة، جه ومعاه مفاجئتين انقح من بعض.. الاولانية انه بيزيد المنافسة والتذبذب، فيعطل القرار.. هم وقلق عشان تحاول جاهدا تخلّص مقارنات وتختار أفضل بديل متاح.. وبعدين بعد ما نختار.. تحصل الحاجة التانية؛ اننا نقعد نكمل المقارنة (اللى لسه ماخلصتش)، فمعدل رضانا عما امتلكنا بالفعل يبدأ يقل.. فنتنكد!
اللى بيقدملك صينية كحك فيها نوعين؛ كحك سادة وكحك محشى عين جمل وبيقولك اختار، بيديك اعظم حاجة ميزربنا بيها الانسان (اقصد الاختيار طبعا مش الكحك).. لكن اللى بيقدملك علبة من العلب اياها، فيها ٢٣ نوعًا بحشوات والوان واحجام مختلفة.. ده بيقولك اختار (من غير النقطة).. بيهديك عمليا واحدة من بلوتين؛ الحيرة أو التخمة!
لو نفسك تتجنب الفخ ده، جرب اللعبة دي؛ فكر نفسك بكنز استقلاليتك وحرية اختيارك، ومع ذلك احتفل بقلة البدائل.. النهاردة لما يكون عندك قميصين تختار ما بينهم، بص للى عنده ٣٠ قميص، نظرة كلها شفقة وتعاطف.. حط نفسك مكانه، واحمد ربنا من قلبك عشان اداك سبب للرضا والراحة مش موجود عنده.. ودارى على شمعتك لحسن تتحسد.