عاجل

كنوز | بركة «الإمام» …!

إبراهيم عبد القادر المازنى
إبراهيم عبد القادر المازنى

كنت مدرساً للترجمة فى المدرسة السعيدية الثانوية، وأقبل الامتحان العام وعينت مراقباً فى إحد اللجان وكان أخى طالباً، وعليه أن يؤدى الامتحان فى إحدى هذه اللجان، واتفق أن دعيت أسرتنا كلها إلى عرس قريب لنا، فذهبنا مغتبطين، ولكنى كنت فى قرارة نفسى مشفقاً من سهر الليل، وكيف يؤدى أخى امتحانه وهو لم ينم، فتركت الأمر للمقادير، والتقيت فى بيت قريبنا بعض الأصدقاء، فجلسنا بالحديقة نسمر ونضحك، والعريس وأبوه يلحان علينا أن نكون مع الجمع الحاشد لنسمع غناء الشيخ يوسف المنيلاوى بلبل زمانه، ونحن نرفض ان نتزحزح عن مكاننا لجماله، ونطلب أن يقدم إلينا الطعام، حيث كنا بلا كلفة.
وجاء رجل من أهل طنطا، يرتدى جبة وقفطاناً وطربوشاً، وكان له معرفة ببضع الإصدقاء، فصفق أحدهم ودعا بالقهوة، فلما أقبل الخادم بها، صب وناولنا، مال أحد الأصدقاء على الطنطاوى وسأله : " معك خلطة ؟ "،

وقيل لي: إنها عنبر ومسك، قطرات منها تطيب بها القهوة، فقلت : هاتوا إذن، فأخرج الرجل زجاجة صغيرة، وجعل يصب قطرات لكل واحد منا، وكنا جلوساً على الوسائد فوق سجادة على الخضرة، رشفت من فنجاني، فكرهت طعمها، كانت كلها زيتاً ثقيلاً، فسكبت ما بقى فى الفنجان على الخضرة، وصحت بالطنطاوي: «ما هذا يا شيخ السوء ؟

متى كان العنبر والمسك شراً من زيت الخروع؟"، ومضمضت فمى بالماء، وجيء بالطعام، فأقبلنا عليه كأن لنا عاماً ما طعمنا فيه شيئاً، وما كدت أنهض عن المائدة حتى شعرت بكظة مزعجة، ودوار، وملت على الأرض، فإذا بها تدور وتعلو بى وتهبط، ففزعت وانتفضت قائماً، وأيقنت أنى لا محالة ميت ما لم أفرغ ما فى جوفى، وعبثاً حاولت أن أفعل ذلك، ولم يبق عندى شك فى أن الذى صبه لنا الطنطاوى نوعاً من المخدرات «كالمنزول»، فآليت لأخنقنه قبل أن أموت!

وهمت به وأنا كالمجنون، فحالوا بينى وبينه، وصرفوه، بالتى هى أحسن، وجاءونى بليمون زعموا أنه يفسد فعل هذه «الخلطة»، فخطفته من أيديهم، وجعلت آكله بجلده، وقصدت إلى باب الحديقة ونظرت حشد المدعوين وتخت الشيخ يوسف، وكنت لا أرى شيئاً واضحاً، كان «قوس» الكمان يبدو لى كأنه يرسم فى الجو دوائر ومربعات، وكان صوت الشيخ يوسف كالطبل فى أذني، فعدت وانطرحت على الأرض، وكنت أغيب عن وعيى ثم أفيق، والقوم حولى كأنهم أصنام، ودعوت أحدهم أن يبعث فى طلب طبيب، فهز رأسه وبقى حيث هو، وعاودنى الإغماء لحظة، فلما أفقت وتبينت أن لا أمل فى معونة من هؤلاء القوم، أشرت إلى خادم لمحته خارجاً وطلبت أن يجيئنى بسكر وخل، وأذبت السكر فى الماء، وخلطته بالخل، وشربت وقمت أعدو إلى ركن فى الحديقة، فكان الفرج، ونمت بعدها ساعات، فلما كان الفجر. قمت إلى بيت صهرى لأغتسل وأتهيأ للخروج إلى لجنة الامتحان، لأضمن ألا يتخلف أخى عن امتحانه، وخلعت ثيابى لأستريح قليلا، وإذا بى أرى أخى كالمجنون يصيح بكلام غير مفهوم، وكان رأسى لا يزال ثقيلاً، فسألته عن الخبر، فإذا هو معذور، لأن خادماً فى بيت صهرى سرق سترته وحذاءه، وسرق بنطلونى وطربوشي، فصار من المستحيل أن نخرج من البيت، فما لنا فيه ثياب أخرى، ولم يبق إلا أن نحاول أن نستعير من بعض الجيران ثياباً نعود فيها إلى بيتنا، وهناك نستطيع أن نرتدى غيرها، وفعلنا بعد عناء، وكان بيت صهرى على مقربة من مسجد الإمام الليث بن سعد، فارتدينا الثياب المستعارة، وتوكلنا على الله، ومررنا بالمسجد، وإذا بالخادم جالس على باب المسجد، فجذبته من ذراعه فنهض، وعدنا به إلى البيت ونزعنا ما عليه من ثيابنا، واعترف أنه سرقها ولما بلغ المسجد أحس أنه مقيد، ووجد نفسه يجلس على الباب، ولم يستطع أن يبرح مكانه، فقال كل من سمع هذه القصة إنها " بركة الإمام "، وقلت فى سرى " لعل هذا هكذا "، ولكنى أحسب أن إيمان هذا الخادم بما لأولياء الله الصالحين من البركة والسر، قد فعل فعله، وكان له أثره حين مر بالمسجد، فاضطرب وارتبك، ولزم مجلسه حائراً، وكبر فى وهمه أن " الإمام" قيده وأقعده عن الحركة، وقد أصرت زوجتى يومئذ - رحمها الله على أن تصنع «خبزاً وفولاً» لفقراء "الإمام "، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟ فلم أعترض. وكيف كان يقبل منى اعتراض؟

من كتاب « أحاديث المازنى »