سببها التقدم التكنولوجى وتضاعف العوامل البيولوجية الجديدة

«الأوبئة».. الإرهاب القادم

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

كتبت/ دينا توفيق

جماعات مسلحة وعمليات انتحارية.. تفجيرات وقتلى وجرحى وترويع للآمنين.. سنوات طويلة طالت يد الإرهاب الغاشم الأبرياء فى العديد من دول العالم.. محاولات التصدى له بإعلان الحرب عليه.. والآن، الإرهاب فى صورة لم نعتد عليها، حصد الأرواح وأتى على الأخضر واليابس.. حرب من نوع يكاد يكون جديدا؛ حرب شرسة وأشد ضراوة، يخوضها العالم مع وباء كوفيد-19 الأشبه بالشبح؛ الخوف والفزع انتاب سكان الكوكب من كل شيء حوله يمكن أن يفتك به.. بينما لا يزال العالم يكافح الفيروس، تتعالى التحذيرات من مخاطر الأوبئة القادمة، وضرورة الاستعداد لها، التى يبدو من الواضح أن العالم سيخوض حربا بيولوجية وعليه أن يتعامل مع الأوبئة كما يعامل الأسلحة الكيميائية.

كما عاش العالم طيلة أكثر من عام، وقفت منظمة الصحة العالمية مرتجلة ومن ثم الحكومات، لم يستطيعوا احتواء انتشار فيروس، خطط عشوائية لا تستند إلى معلومات واضحة والتخبط فى التصريحات نتيجة حجب الصين المعلومات عن تفشى المرض فى ووهان وأسبابه وطرق التعامل معه حتى أصبح وباءً عالميًا. لقد أدرك أصحاب المصالح منذ فترة طويلة أن الخوف والذعر، يوفران فرصًا قابلة للاستغلال لإعادة هيكلة المجتمعات أو بمعنى أدق إعادة تشيكله بإنشاء نظام عالمى جديد. وكان فيروس كوفيد-19 مثال يؤكد هذه الملاحظة، وهذا يعنى أن حملات الخوف المحكمة جيدًا يمكن أن تقنع الكثير من الناس بالتخلى عن أنشطتهم وممارسات حياتهم اليومية والخضوع لعمليات الإغلاق والحجر المنزلى؛ حيث قيّدت تدابير منظمة الصحة العالمية بغرض مكافحة الوباء الحريات فى العالم العام الماضى وسهلت إمكانية تحول دول كانت تتمتع بالديمقراطية إلى نموذج جديد أكثر تسلطًا. لقد استبدل قادة العالم "الحرب على الإرهاب" بسرد جديد؛ الوباء الدائم، حيث سيتم التحكم فى المجتمعات تحت ستار "عوامل ومسببات الأمراض".

وفقًا لموقع «OffGuardian» التابع لصحيفة الجارديان البريطانية، يبدو أن ردود الفعل المستمرة والمتجددة لفيروس كورونا سيكون لها تأثيرها الواسع وطويل الأمد على السياسة والمجتمعات ومن ثم الاقتصاد. فإن الدافع لإغلاق جميع الأنشطة غير عادى، مثل التدابير التى يتم الترويج لها بفرض التباعد الاجتماعي؛ والاستغلال الواضح للخوف من الأمراض المعدية التى لها جذور عميقة ومتأصلة فى الوعى الجماعى من خلال الأحداث التاريخية مثل "الطاعون الأسود''، جعلت قبول تدابير الطوارئ القصوى سواء كانت منطقية أو مبررة أم لا، أمرًا لا مفر منه ولا خيار آخر. كما يعد تكرار التحذيرات أحد العناصر الرئيسية فى أدوات الدعاية لاستمرار الخوف، خاصة إذا كانت تلك التحذيرات تأتى من جهات رسمية موثوق بها، كمنظمة الصحة العالمية أو ﻣﺮﻛﺰ ﻣﻜﺎﻓﺤﺔ اﻷﻣﺮاض واﻟﻮﻗﺎﻳﺔ ﻣﻨﻬﺎ «CDC».

وفى يناير الماضي، أصدرت لجنة من الحزبين "الديمقراطى والجمهوري" تقريرًا مثيرًا مؤلفًا من 44 صفحة بعنوان "برنامج أبولو للدفاع البيولوجي"، يقارن التقرير الجهود التى تمت من أجل عزل رواد الفضاء العائدين إلى الأرض؛ حيث لجأت ناسا إلى إجراءات غير عادية، مثل إلباسهم "ملابس عزل بيولوجية"، ونقلهم فى عربات "أيرستريم"، وتلك التى وضعتها اللجنة فى تقريرها عام 2015، عندما نشرت مخططًا وطنيًا للدفاع البيولوجي. ووفقًا للتقرير فإن جائحة كورونا تعد بمثابة تنبيه صارخ للولايات المتحدة لأخذ التهديدات البيولوجية على محمل الجد، التى أودت بحياة ما يقرب من 3 ملايين شخص حول العالم وكلف الاقتصاد العالمى تريليونات الدولارات فى عام واحد فقط. وتتعالى التحذيرات من تزايد مخاطر الأوبئة فى المستقبل مع التقدم التكنولوجى الذى يزيد من مسببات الأمراض، وتضاعف العوامل البيولوجية الجديدة التى تتسبب فى أمراض أسوأ بكثير مما واجهته البشرية من قبل.

وفى أعقاب أحداث الحادى عشر من سبتمبر للإشارة إلى الإرهاب، استخدم الأعضاء الرئيسيون فى لجنة الدفاع البيولوجي، مثل السيناتور "جوزيف ليبرمان" والسياسى البارز "توماس ريدج" الذى كان أول وزير للأمن الداخلى، لغة "التهديد الوجودى"؛ وهى نفس اللغة التى يستخدمونها الآن فيما يتعلق بالأوبئة. وخلال عام 2014، بدأ قادة العالم فى الإشارة إلى نيتهم استبدال الحرب على الإرهاب بسرد جديد. وفى خريف العام ذاته، استضاف الرئيس الأمريكى الأسبق "باراك أوباما" أول اجتماع لجدول أعمال الأمن الصحى العالمى (GHSA)، والذى ارتقى لاحقًا إلى أولوية وطنية؛ حيث كان التركيز على أهمية المواجهة الجماعية لاندلاع الأمراض المعدية، وحينها أشار أوباما إلى أن تفشى الأمراض فى عالم تترابط أجزاؤه ومن الممكن أن ينعكس بالضرر على جميع البلدان، مشدداً على ضرورة التعاون العالمي. وسرعان ما أعلن بعد ذلك أن التهديد الإرهابى "مبالغ فيه"؛ وبعد ملاحظة التقليل من شأن الإرهاب من قبل أوباما وكبار المسئولين فى إدارته، بما فى ذلك نائب الرئيس "جو بايدن" آنذاك، أصدرت لجنة الدفاع البيولوجى مخططها الوطنى فى العام التالى.

وتماشيًا مع تقرير لجنة الدفاع البيولوجى، فإن وسائل الإعلام بدأت فى التحذير بـ"البدء فى التخطيط للتعايش مع وباء دائم". وعلى سبيل المثال، نشر الكاتب "أندرياس كلوث"، تقريرا فى 24 مارس بوكالة "بلومبرج" الأمريكية، يحذر فيه من أن يصبح SARS-CoV-2، المسبب لفيروس كورونا عدو دائم، مثل الأنفلونزا ولكنه سيكون أسوأ. وأضاف، تختفى معظم الأوبئة بمجرد أن يصل السكان إلى مناعة القطيع؛ التى تأتى من خلال الجمع بين المناعة الطبيعية لدى الأشخاص الذين تعافوا وتطعيم بقية السكان. ومع ذلك، فى حالة فيروس كوفيد-19، تشير التطورات الأخيرة إلى أن العالم قد لا يحقق أبدًا مناعة القطيع؛ ويرجع السبب الرئيسى لظهور سلالات جديدة له. 

فيما يرى المدير العام لمنظمة الصحة العالمية "تيدروس أدهانوم جيبريسوس" أن العالم بحاجة إلى أن يتعامل مع عملية احتواء الوباء على محمل الجد، مثلما نتعامل مع مخاطر أسلحة الدمار الشامل الأخرى، والانتشار النووى والأسلحة الكيميائية؛ حيث توفر المعاهدات العالمية لمنع انتشار هذه الأسلحة مجموعة أدوات يمكن استخدامها أو تكييفها للمساعدة فى منع انتشار الفيروسات أيضًا. وفى يناير الماضي، دعت منظمة الصحة العالمية إلى معاهدة جديدة بشأن الوباء، لكن من المرجح ألا تحقق أهدافها المرجوة، على الرغم من النوايا الحسنة، فإن المعاهدة مقدر لها أن تفشل فى تغيير كيفية التعامل مع حالات تفشى المرض فى المستقبل؛ وذلك لأن المعاهدة فشلت فى معالجة العقبة الرئيسية أمام التأهب للوباء، بعد رفض بعض الدول، ولا سيما الصين، الخضوع للشفافية الكاملة، ومشاركة البيانات والمعلومات والتفتيش عن تفشى الأوبئة والفيروسات، وفقًا لما ذكرته مجلة "فورين بوليسى الأمريكية". وعلاوة على ذلك، فإن المعاهدة التى يتم التفاوض عليها تحت رعاية منظمة الصحة العالمية، والتى لديها القليل من السلطة الخاصة بها، تعكس مصالح الدول الأعضاء فيها، ومن غير المرجح أن تجرى التغييرات الشاملة المطلوبة بشكل عاجل. 

وبحسب المجلة، فإن استجابة منظمة الصحة لفيروس كوفيد-19 افتقرت إلى الضغط على بكين لمشاركة المعلومات حول انتشار المرض فى الوقت المناسب. عندما تم اكتشاف فيروس كورونا الجديد لأول مرة فى ووهان، أواخر عام 2019، استندت استجابة العالم إلى اللوائح الصحية الدولية (IHR)، وهى اتفاقية عمرها 40 عامًا تم تحديثها عام 2005 بعد تفشى سارس. وتطلب اللوائح الصحية الدولية من الدول الأعضاء فى منظمة الصحة العالمية البالغ عددها 194 دولة تقديم تقارير سنوية عن تأهبها لتفشى المرض، ولكن الأهم من ذلك أنها تعمل كآلية استجابة عالمية عند تفشى المرض. ويتطلب الأمر من السلطات الصحية الوطنية إخطار منظمة الصحة العالمية بمجرد ظهور مرض، يمكن أن ينتشر عبر حدودها. حيث تعتمد المنظمة على البيانات والمعلومات المقدمة طواعية من الدولة التى تفشى فيها الوباء؛ وتتطلب الزيارات الرسمية لعلماء الصحة وجمع البيانات من أجل التحقيقات ولكن بموافقة الدولة. وعلى الرغم من أن المنظمة قدمت طلبات متعددة إلى الرئيس الصينى "شى جين بينج" من أجل الحصول على معلومات، لم تتلق أى إجابة من الجانب الصينى حتى 3 يناير٢٠٢٠. ومع تزايد الضغط على تعاملها مع الفيروس، قامت الصين بالتعتيم. وتعثرت منظمة الصحة العالمية، التى تعتمد على المعلومات الصينية ولكنها غير راغبة فى انتقاد بكين لرفضها التعاون، خاصة عندما لم تعلن عن حالة طوارئ صحية عامة فى اجتماعها يومى 22 و 23 يناير. لقد تم الكشف عن الثغرات الهائلة فى التأهب والاستجابة الجماعية للوباء فى العالم ليراها الجميع، والتى تنذر بالمزيد من الأوبئة. ووفقًا لباحثة الصحة العامة فى جامعة كولومبيا "نينا شوالبي"، فإن الطريقة الوحيدة لسد ثغرات الاستجابة الدولية للأوبئة؛ هى إعطاء المجتمع العالمى سلطة أكبر لإجراء مراجعات مستقلة لاستعداد البلدان للوباء، والتحقيق فى أى حالة يشتبه فى عدم امتثال بلد ما لالتزاماته المتعلقة بالوباء، والأهم من ذلك توفير البيانات على الفور عن تفشى المرض. 

وتقول شوالبى: إن الخطة الحالية، المقرر تقديمها الشهر المقبل، يجب أن تضم أهم عاملين فى احتواء المرض هما سرعة الاستجابة وتوافر البيانات عنه؛ لذا يجب إنشاء نظام يعزز الشفافية والعمل بحيث تكون التهديدات المقبلة معروفة قبل أن تنتشر. كما ليس لدى نظام الصحة العامة الحالى أى وسيلة لمعاقبة عدم امتثال أى بلد للاتفاقيات الدولية ومتطلبات الإبلاغ بخلاف تسمية البلدان المخالفة وفضحها. والأكثر من ذلك، الدول القوية مثل الصين التى لديها القوة داخل منظمة الصحة العالمية والمؤسسات الدولية الأخرى لعرقلة التحقيقات وإخفاء التقارير. وهذا أكدته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، عند نشرها تقريرا يوضح كيف قاومت الصين كل الجهود التحقيق فى أصول الوباء. حيث أرجأت بكين أى تحقيق عامًا كاملًا، وطالبت بحقوق النقض بشأن من يقوم بإجراء التحقيق والحق فى مراجعته قبل نشره. كما رفضت الصين فكرة إجراء تحقيق من حيث المبدأ، وأصرت على الإشارة إليها على أنها "دراسة تعاونية" بدلاً من ذلك.

ولذلك يتطلب فرض الامتثال للاستجابة للجائحة القدرة على إجراء زيارات استقصائية والتحقق من البيانات بشكل مستقل، دون موافقة صريحة من الدولة المعنية. وهذه السلطة المستقلة موجودة بالفعل فى هيئات أخرى مثل الوكالة الدولية للطاقة الذرية وزيارة المواقع النووية، حيث يمكن للمنظمة القيام بعمليات تفتيش داخل الدولة. ووفقًا للمجلة الأمريكية، فإن منح الصلاحية للزيارات غير المعلنة، سيوفر آلية إنذار مبكر عن تفشى المرض، كما سيساعد فى تحديد أصل مسببات الأمراض وتقييم ما إذا كانت الدولة قد قامت بجهود كافية لاحتوائها. من المحتمل أن يتطلب ذلك إبرام المعاهدة على مستوى الأمم المتحدة، وليس منظمة يسيطر عليها الأعضاء مثل منظمة الصحة العالمية.