«بلمونت وأمينة».. قصة حب أسطورية هزت إسبانيا وانتهت بالانتحار

 مصارع الثيران الإسباني "جوان بلمونت"
مصارع الثيران الإسباني "جوان بلمونت"
عندما يكتشف المرء أنه يحب يشعر أن كل شيء حوله تغير وأصبح لونه أجمل والحياة أصبح لها طعم وفائدة، ويشعر أنه هو نفسه تغير وتغيرت كل معتقداته ونظرته للحياة وأنه يستطيع أن يقف أمام العالم في سبيل الحصول على من يحب، ولكن بمجرد أن يحدث شيء يسلب منه هذا الحب يشعر وكأن سكينًا حادًا اخترق قلبه ويكون الموت أهون عليه من هذا الشعور.

 

وقصة مصارع الثيران الإسباني "جوان بلمونت" التي نشرت في مجلة "أخر ساعة" بتاريخ 2 مايو 1962 أثبتت هذا الكلام، حيث كانت الفتيات يذهبن إلى حلبة المصارعة لمشاهدة جوان وهو يصارع الثور الأسود المخيف في سهولة وبراعة منقطعة النظير.

 

وكانت تنهال باقات الورد أمام المصارع الذي يتطلع إلى أصحابها في المدرجات ويشكرهم بابتسامة شاحبة ثم سرعان ما يختفي البطل عن الناس وعن الحلبة في طريقه إلى منزله، وتفقدن الفتيات صوابهن ويطاردون المصارع في كل مكان بدموعهن وكبريائهن المسلوب.

 

ولكن جوان كان يتلذذ بعذاب المعجبات، وكان يقرأ الصحف التي كتبت عن عشرات الفتيات اللاتي فضلن الموت على هذا العذاب والجفاء، فهناك فتاة في عمر الزهور ألقت بنفسها في أمواج البحر يائسة من حبها له على أمل اللقاء في الآخرة، وقد سجلت مئات القضايا التي طلب أصحابها الطلاق من زوجاتهم اللاتي هجرن بيوتهم لمطاردة مصارع الثيران.

 

وكان جوان يستمع إلى هذه المآسي ويهز كتفه في تعالي ويقول إن المرأة مجنونة وهذا كله دليل على صدق كلامي، ورغم كل غروره وكبريائه كان الكل في إسبانيا يرى أنه البطل العالمي الشجاع القوي الذي لا يقهر.

 

وحتى آخر يوم في حياته كان يصله أكثر من 300 خطاب في اليوم من المعجبات والمعجبين، وكان ساعي البريد المغضوب عليه يرسلونه للعمل في المنطقة التي يسكن فيها المصارع الإسباني، وكان جوان يهتم بقراءة جميع هذه الخطابات وكان يرد على أصحابها ولكن بنفس الكبرياء والشموخ.

 

وسبق لجوان الزواج وهو أب لطفلين ولكن زوجته "ماجورا" لم تتحمل شموخ زوجها ولا مطاردات النساء له، فهجرته وأخذت طفليها معها وعاشت في مدريد بعيدا عن الأضواء وعن الرفاهية التي يعيش فيها زوجها.

 

إن جوان بلمونت يعيش في عزبة شاسعة تتوسطها فيلا أيه في الجمال والبذخ ويقيم فيها الحفلات الصاخبة التي يتسابق في حضورها أجمل زهرات المجتمع في إسبانيا وأوروبا أيضا، وبعد أن اعتزل بلمونت المصارعة عام 1935 وهو في أوج مجده لم تتوقف هذه الحفلات ولم يتضاءل جمهوره من المعجبات والعشاق.

 

وبرغم اعتزاله المصارعة فإنه ظل مرتبطا بالحلبة حتى وصل إلى الرابعة والستين من عمره وكان يرضي هوايته في منزله، فقد أقام حلبة صغيرة للمصارعة في أرضه واكتفى بمصارعة البقر، فقد وصل إلى السن الذي لا يمكنه أن يصارع الثيران المتوحشة.

 

وكان نهارا مشغولا بأصحابه وبأرضه ومواشيه أما ليلا فكان خاليا باردا يشعر بالوحدة تحوطه من كل جانب، فزوجته لا يعرف عنها شيء وأولاده لا يسألون عنه، فبرغم شهرته وانتصاراته وعشاقه الذين يحيطون به فإنه يشكو فراغ القلب وضيق الروح وثروته الطائلة لم تحقق له ما يرضيه نفسيا.

 

ولأول مرة شعر جوان بحاجته إلى امرأة ولكن من التي ترضى بهذا الشيخ العجوز، وكان جوان يعرف الإجابة على هذا السؤال المؤلم ولكن الأيام كانت تعد له إجابة أخرى لا يتوقعها.

 

فقد وصلت فتاة جميلة في العشرين من عمرها إلى إسبانيا قادمة من كولومبيا وكانت تهوى ركوب الخيل غير المستأنسة وتريد أن تصبح بطلة في هذه الرياضة الإسبانية الشهيرة، وتقابلت مع جوان فأعجب بها من أول نظرة ووافق على أن يصبح أستاذها، وهللت الفتاة لهذا الخبر وعاشت معه في الضيعة الشاسعة التي يملكها.

 

كانت تكن له احترامًا لا حدود له وكان هو يحبها ويعشقها في جنون أفقده كل سيطرة على نفسه وعلى شموخه، وكان يركب حصانه ويقطع معها مسافات طويلة ويتكلم باستمرار وأمينة تنصت له في شبه تقديس وظن أنها تحبه، برغم أنه يكبرها بأكثر من 50 عامًا.

 

ولكن الحقيقة أن أمينة كانت تعتبره بمثابة جدها ولم يخطر على بالها أبدا أن جوان يعشقها كأنثى و يشتهيها كامرأة، وصمم جوان أن يتحدى السن ويتحدى الطبيعة، وفي اليوم الذي قرر فيه أن يفاتح أمينة في رغبته في الزواج سقط مريضًا في سريره، وزاره طبيبه الخاص وأجرى له التحليلات الطبية ثم أعلمه بالنتيجة وهي أنه مصاب بالسرطان.

 

ونزل الخبر عليه كالصاعقة وأخذ يحملق في الطبيب الذي قال له: لا تشرب الخمر بعد اليوم وامتنع عن التدخين تماما ولا تركب الحصان أو تصارع البقر، يجب أن تمتنع عن أي نشاط يرهق جسمك وصحتك.

 

وهنا قاطعه جوان كالمذهول قائلا: لكنني يا دكتور أريد أن أتزوج أمينة وأنا لا أقوى على البعد عنها فهي المرأة الوحيدة التي سكنت قلبي وملأته حبا وأملا، ولم يجد الطبيب ما يرد به على كلام جوان فغادر وتركه وحده بين دموعه وأشجانه.

 

إن حياته أصبحت مهددة لو تزوجها، إنه لا يريد أن يصدق أن أمينة أصبحت محرمة عليه لقد ظن أن حياته تجددت وأن شبابه عاد إليه وأن سحره وشخصيته سلبت حواس فتاة شابة يتمناها مئات الشبان ولكن الطب يقف الآن حائلا أمام رغبته وأمنية عمره.

 

وفي ثورة ضيق وألم قام جوان من سريره وفتح باب غرفته ونزل إلى مكتبه وهناك وقف بين مئات الكؤوس الذهبية التي حصل عليها في شبابه وأمسك بصورة أمينة تلميذته وحبيبته ووضعها فوق قلبه ثم أخذ مسدسه وحرك أصبعه فانطلقت رصاصة اخترقت رأسه وسقط جوان بلمونت لا حركة فيه سوى دموعه التي كانت تتساقط.

 

وجاء البوليس والقسيس وتأكدوا من أن البطل الشعبي قد أطلق النار على نفسه، ولكن هذا الخبر يكفي لتحطيم صورة البطل في قلوب أطفال ونساء وشيوخ إسبانيا، إن الكنيسة والحكومة والصحافة تآمرت على إخفاء خبر الانتحار عن الشعب وقالت صحف إسبانيا إن البطل مات بالسكتة القلبية.

 

وحضر مئات الألوف في جنازته يبكون البطل الأسطوري فقد فضلت إسبانيا أن تغمض العيون على أن تفتحها وتلوث ذكرى فنان عظيم، هذا ما حاولت أن تفعله حكومة و صحافة إسبانيا ولكن خبر الانتحار تسرب وعرفه الناس ونشرته الصحف الأجنبية في صفحاتها الأولى، ورغم ذلك فلم تتحطم أسطورة جوان بل بقيت كما كانت في حجرة نوم كل طفل وفي قلب كل حسناء وفي ذاكرة كل كهل.

 

وتصدرت الصحف عناوين مثل: الرجل الذي كان يتسلى بالحب راح ضحية الحب، الأسطورة التي هزت ملاعب الثيران في إسبانيا انتهت فجأة، انتحر أعظم مصارع ثيران عرفته إسبانيا، اختفى الدون جوان الذي حطم قلوب ملايين الفتيات والزوجات، كانت المصارعة هوايته وتفكيره وكل حياته وجاء الحب فأنهى حياته.

 

المصدر: مركز معلومات أخبار اليوم