عاجل

«كذبة أبريل».. مقالب الناس سنة 1939 يرصدها

لو عاوز تشوف مقالب «كذبة أبريـل» سنة 1939.. اقرأ مقال عبد القادر المازني

الكاتب الصحفي عبد القادر المازني
الكاتب الصحفي عبد القادر المازني

تنشر صفحة «كنوز» مقال للكاتب الصحفي عبد القادر المازني، عن مواقف تعرض لها في الأول من أبريل 1939، والتي نشرها في مجلة الرسالة تحت عنوان: «كذبة أبريل»، وجاء فيها:

في أول أبريل يحلو لبعض الناس أن يكذبوا، ويطيب لهم أن يزعجوا بهذا الكذب، أعزاء عليهم، ولو اختصوا بالكذب المثير أو المزعج، أو الذى يورث المتاعب، غير الأوداء والأصدقاء: أى الخصوم والأعداء، لكان هذا أقرب إلى العقل وأشبه بما ينبغى أن يكون، فما يبالى المرء على أى حال من السوء يكون عدوه، وكلما زاد الشر الذى يقع فيه أو ُيمنى به العدو كان ذلك أشرح لصدر عدوه وأثلج لقلبه، ولكن الصديق شيء آخر، والإنسان جدير أن يخجله أن يركب صاحباً له بدعاية مؤذية، وأن يضحك ويفرح بما ينزله بهذا الصاحب من السوء، وقد لقيت فى أول إبريل هذا من المتاعب ما بغضه إلى، حتى لتمنيت على الله أن يلهم الناس حذف الشهر كله، وإسقاطه أجمعه من تقويم العام.

صبحنى واحد، وأنا أجلس إلى مكتبى، بأن برقية وردت بأن ألمانيا قذفت بجيشها على أرض بولندا، وأن القتال يدور بين الطلائع النازية وقوات الدفاع، فسألته " أتتكلم جادّاً؟ "، قال وهو يشير إلى ورقة فى يده "هذه هى البرقية. اسمع ترجمتها "، فتفرست فى وجهه، فلم أر ابتساماً، ولا ما يشى بأنه يهم بالابتسام. فقلت " إنى كنت، وأنا آت إلى هنا، أحدث نفسى بأن أكتب فى التصريح الذى ألقاه المستر تشمبرلن أمس فى مجلس العموم البريطاني، وكنت أريد أن أقول إنه من العوامل المرجحة لكفة السلم، ولكنك تروى لى نبأ غريباً، لا يكاد يقبله عقلي، فهات لى هذه البرقية لأقرأها فإنى لا أكاد أفهم، فما أعرف لماذا تجازف ألمانيا هذه المجازفة التى ليس لها أى موجب، ولا من ورائها أى خير لها أو لسواها "، انتزعت منه الرقعة فإذا هى قديمة وتاريخها أول مارس، وليس فيها أى ذكر لألمانيا أو بولندا! وماذا يبالى صاحبنا هذا أن يهدم لى الدنيا، وأن يحيلها حولى أنقاضاً، وأن يدير لى رأسى حتى ما أعود أعى شيئاً ؟!.

 

وبعد نحو ساعة، دق صوت التلفون وقلت وأنا أضع السماعة على أذنى " نعم "، فسمعت صوت زوجتى يقول لى " أبو خليل... مبروك " فسألتها مستغرباً " مبروك إيه؟ "، قالت: " بالهناء والرفاء والبنين.. لماذا لم تخبرنا لنفرح لك معك؟ "، قلت " عن أى شيء تتحدثين؟ رفاء، وبنين...؟! ما هى الحكاية ؟ " !.

 

قالت " برقية وردت بتهنئتك بعروس جديدة... هل أقرأها لك فى التليفون؟ أو يكفى أن أذكر لك اسم مرسلها؟! "، وقبل البرقية دق الباب رجل وسأل عنك، فعرف أنك خرجت فكلفنا أن نبلغك تهنئاته القلبية، فلم نفهم، ولكنه انصرف قبل أن نتمكن من سؤاله، على أن البرقية ما لبثت أن جاءت ففهمنا كل شيء، مبروك، على كل حال "، فأيقنت أن أكاذيب إبريل كلها ستقذف عليَّ فى هذا اليوم السعيد وقلت لها " آه، كذبة إبريل، اشكرى عنى المهنئين والمهنئات، فإنى الآن مشغول بالعروس، أبثها حبى، وأناجيها بما يجن قلبى لها.. ألا تسمعين "، فألقت السماعة، ولم تجب!.

 

المصيبة أن النساء أميل إلى تصديق كل ما يثير غيرتهن، خرجت من مكتبى ومررت بصاحب لى قدم لى شوكولاته فاعتذرت عنها، فاقترح أن أنتقى قطعا آكلها حين أشاء فلم أر فى هذا بأساً، وعدت إلى البيت وخلعت ثيابى لأستريح، فسألتنى امرأتي: " معك سجاير ؟ "، قلت " فى جيبى، خذى ما تريدين " فدفعت يدها فى جيبى وقالت وهى تتأمل ما عثرت عليه " آه.. شوكولاته العروس"، قلت " لا تكونى سخيفة، هذه أعطاها لى فلان "، فألقت فى فمها واحدة وإذا بها تلفظها فجأة وتصيح " ما هذا القرف ؟ " فسألتها " قرف.. أى قرف يا شيخة ؟ "، قالت " بتضحك عليّ، وتغرينى بشوكولاته حشوها ثوم وفلفل، مزاح بارد ؟ " فقلت " أنا كنت المقصود بهذا المزاح البايخ، ولكنى نجوت، فظلت تصيح عما ستفعله الآن، فاقترحت عليها أن تشرب قليلاً من الكولونيا، فقالت " تريد أن تقتلنى ليصفو لك الجو مع عروسك الجديدة "، لم افتح فمى فما من سبيل إلى إقناع المرأة بسخافة الغيرة، ومن الكذب ما هو بريء وما هو سوء يحسن اتقاؤه، وأنا مستعد أن أضحك وأستملح دعابات الأصدقاء، ولا أظن أن ما ذكرت يدخل فى باب الفكاهة المستملحة،ومن الفظيع مثلا أن ينعى لك صديق وهو حى يرزق، فتخف إلى داره لتعزى أهله، ويلقاك ابنه أو أخوه، ولا ترى فى وجهه حزناً، فلا تستطيع أن تقص عليه الخبر الذى حملك إليه، ولا تجد ما تسوغ به هذه الزيارة فى ساعة غير مألوفة!.

 

مجلة‭ ‬"‭ ‬الرسالة‭ ‬"‭ - ‬3‭ ‬أبريل‭ ‬1939