فى الذكرى 44 لرحيل «العندليب».. رسالة «عندليب الصحافة» لـ«حليم»: وحشتنا

حليم ونجلاء فتحى فى بروفة مسلسل « أرجوك لا تفهمنى بسرعة »
حليم ونجلاء فتحى فى بروفة مسلسل « أرجوك لا تفهمنى بسرعة »

بقلم : محمود عوض

لو حكينا يا عندليب، فى ذكرى رحيلك الـ ( 44 ) تفتكر لفين تنتهى بينا الحكاية، صحيح عرفنا البداية وعرفنا أيضا يوم النهاية التى نراها مفتوحة لأنها لم تنته برحيلك عن الدنيا فى 30 مارس 1977، امثالك يا عبد الحليم يرحلون عن الدنيا بالجسد مثل كل عظماء تاريخ، وتبقى ذكراهم حية لا تنسى ولا تموت او تندثر مع الزمن، وفى ذكرى رحيلك نترك الكلام يا " عندليب الغناء " لصديقك " عندليب الصحافة " الكاتب محمود عوض الذى كتب عنك مقالا مطولا بعنوان «عزيزى عبد الحليم.. وحشتنا» ننتقى منه المقاطع التالية :

تعمقت العلاقة الشخصية بين عبد الحليم وبينى، والفضل فيها يعود إلى عبد الحليم فى الاساس، كان حريصا على أن يتابع الجديد فى كل ما يحيط به، وقد شاغبنى الصديق مجدى العمروسى برقة فى كتابه " أعز الناس " عن عبد الحليم، وحينما دعانى إلى الغداء بعدها فى منزله قال لى إنه يريد فقط أن يدفعنى إلى استعادة ذكرياتى مع عبد الحليم، واتصلت بى " الحاجة علية " شقيقة عبد الحليم التى كان يعتبرها بمثابة أمه، وألحت هى الاخرى لكى أكتب عن عبد الحليم قبل أن تتوه الحقائق وتختلط المعايير.

ويضيف : " عبد الحليم خاض مشوار نجاحة مرتين، أولا لكى يصل إلى القمة، وثانيا لكى يستمر فيها، فى المشوار الاول وجد من يشاركوه وكانوا جزءا من نجاحه، ووجد من حاربوه أيضا، ولا يمكن ان نفهم ظاهرة عبد الحليم بغير أن نفهم أساسا مشاركة كمال الطويل ومحمد الموجى، ثم بليغ حمدى فى الوصول إلى قلوب الناس بلون جديد وسط أسماء كبيرة وقتها كانت لها قاعدتها الجماهيرية، ولنترك أم كلثوم وعبد الوهاب جانبا، يكفى أن نتذكر فريد الاطرش ومحمد فوزى وعبد العزيز محمود وعبد الغنى السيد من بين اسماء اخرى، هذا يعنى أن عبد الحيم اقتنع من البداية بأن عليه ألا يكون بديلا لأحد لأن القمة تتسع لكل موهبة، وعبد الحليم لم يكن فى أى وقت مطرب السلطة كما يحاول بعض ضعاف النفوس تفسير نجاحه، أقلام بارزة وصحف كاملة حشدت نفسها لتقديم كمال حسنى كمنافس لعبد الحليم بحملة دعائية كبرى، لكنه فى النهاية توارى، واستمر عبد الحليم نجما أول فى قلوب الجماهير ".

ظلموه عندما قالوا أنه يدعى المرض

ويستطرد : " حينما عرفت عبد الحليم كان يتربع بالفعل، ومنذ سنوات طويلة، على عرش الغناء، ومع ذلك وحتى رحيله، لم تتوقف الحرب ضده.. أقول إنها حرب لأنها كانت كذلك فعلا بين وقت وآخر، إننى لن اتحدث هنا مثلا عن محاولات التشكيك فى حقيقة مرضه والإدعاء بأنه يتمارض استدرارا لعطف الناس، اتحدث فقط عن مصالح حقيقية تمارس ابتزازها لعبد الحليم حتى النهاية.. مصالح ضيقة، وكان عبد الحليم يعرف بالضبط أشخاصا ودوافع أصحاب تلك المصالح، ويتظاهر أمام الكاميرات بأنه لا يعرف، كل المسألة أنه لم يكن يريد أن يبدو مهتزا أو ضعيفا أمام تلك المصالح، هل اقول مثلا إن صحيفة كبرى قاطعت اخباره وصوره لأكثر من سنه، ليس عن موقف من الجريدة ضده، ولكن عن مصالح ضيقة ونفوس ضعيفه !!.. هل أقول مثلا، أن بعض النافذين فى الصحافة الفنية أوهموا أنفسهم ذات يوم بقدرتهم على ازاحة عبد الحليم من قلوب الناس واحلال آخرين محله يكونون أكثر اذعانا لاحتياجاتهم الصغيرة" ؟

ويستطرد عندليب الصحافة فى مقطع آخر : " حدث ذات مرة أن جمعتنى علاقة عمل بعبد الحليم، من خلال المسلسل الإذاعى" ارجوك لا تفهمنى بسرعة " من تأليفى، وكانت التجربة جزءا من نفوسنا وقلوبنا، وأصبحنا نعيشها على مدارالنهار والليل، فى الافطار نحن على مائدة عبد الحليم بعدها فى استديو الإذاعة حتى السحور، عندها نعود إلى بيت عبد الحليم أو إلى بيتى، فى الصباح صيام وعمل منفرد، على الافطار نتجمع من جديد، ثم جاءت المفاجأة الكبرى ظهرالعاشر من رمضان، إنها حرب أكتوبر، أصبحنا نعيش عالمين، هناك عالمنا الصغير فى استديوهات الاذاعة، فبرغم أن الاذاعة غيرت برامجها جميعا لتصبح فى خدمة الحرب إلا أن تسجيل الحلقات كان لابد أن يستمر لشحنها فورا إلى جميع اذاعات العالم العربى التى اشترتها مسبقا ومستمرة فى اذاعتها، ثم هناك عالمنا الكبير، عالم الحرب التى أصبحنا نعيشها بكل ذرة فى كياننا بعد ست سنوات من التمزق، كنا نتناقل كل خبر، ونحلل كل برقية، ونناقش كل تطور وكأن كل منا هو قائد الجيش شخصيا، وفى الشوارع اختفت العصبية والغربة فجأة من أحاديث الناس، فجأة أصبحوا منضبطين فى سلوكهم، فبرغم حالة الاظلام الليلى التام فى القاهرة لم نشاهد حادث مرور، وبرغم تقنين السلع الاساسية سكر وأرز وزيت وغيره بالبطاقات التموينية لم يتزاحم أحد على السوق السوداء للشراء أو التخزين، اختفت السوق السوداء".

اكتشفنا فى سياق الحرب أن هناك الكثيرالذى يجمع بيننا كمواطنين، واكتشفنا أن مصر تصبح أكبر أو أصغر بشعبها، وفى دائرتنا الصغيرة يريد عبد الحليم أن يساهم بصوته وبليغ حمدى أسبق الجميع إلى عوده وموسيقاه، حتى كمال الطويل الذى اختار لنفسه منذ سنوات التوقف عن التلحين جلس إلى البيانو لكى يلحن، وفى ليلة واحدة كان عبد الحليم يبحث عن كلمات، وأنا أعود إلى بيتى لإعادة قراءة أى قصائد مطبوعة لعل بعضها يناسب الأحداث، وفجأة جاء الينا كمال الطويل بلحن كطلقة مدفع، إنه مجرد دقيقتين أو ثلاثة لكن الطلقة فى كلماته الاولى : " خلى السلاح صاحى "، فى الصباح التالى اتصل بى عبد الحليم ليقول : لقد نمت الليلة سعيدا مرتين، مرة لأن كمال الطويل عاد يلحن لى مرة اخرى، ومرة لأننى بموسيقاه سأشارك فيما يجرى، وأصبحنا نعيش باذاننا مع اذاعة القاهرة، نقفز متعانقين مع كل بلاغ جديد، نحتضن بعضنا بعضا مع كل انتصار يتحقق، نذهب إلى الاستوديو لنسجل بينما أحدنا يذهب إلى قسم الاخبار فى الاذاعة كل ربع ساعة، نعود إلى المنزل لنطارد فى الراديو كل محطات العالم، نفترق إلى بيوتنا لكى ننقل إلى بعضنا البعض بالتليفون كل خبر جديد، نصوم ونفطر ونتسحر وكل عقولنا فى الجبهة، وفجأة اكتشفنا أننا أصبحنا نحتسى كميات من القهوة والشاى عشرين ضعف ما اعتدناه، بعد قليل نفذ السكر من عندى، ونفذ أيضا من بيت عبد الحليم، وجاءنا عبد الرحيم السفرجى ليقول لنا محذرا : "من هنا ورايح مفيش سكر.. تشربوا القهوة والشاى سادة "، وبعفوية جاءه الرد منا : " سادة سادة يا عبد الرحيم.. بس نحارب ".

فيما قبل تلك الليلة وبعدها تتزاحم الحكايات والذكريات والمشاهد عن عبد الحليم، هذا الجريح فى أغنية " تخونوه " أو المشتعل فى أغنية " نار " أو الرقيق فى أغنية " فى يوم فى شهر فى سنة " أو المشتاق فى " رسالة من تحت الماء " أو المعذب فى اغنية " موعود " أو الثائر فى " حكاية السد " أو الحزين فى أغنية " قارئة الفنجان ".. أو.. أو.. لكن الذى يجمع بين كل هذا هو الصوت القادم من أعماق عبد الحليم بالرقة حينما يتيسر، بالاصرار حين يلزم، بالشدة حين يحب، وبالصدق فى جميع الاحوال، ويا عزيزى عبد الحليم، من بعد الاشواق والسلامات والسنوات، أنت معنا صوتا واداء وصدقا ونجما أول، مع ذلك يا أخى : وحشتنا.