تبرعات الأثرياء.. «نفاق خيرى»!

مؤسس مايكروسوفت يقود النخبة لخلق نظام عالمى جديد فى 2030

أثرياء العالم يتبرعون من أجل حصد حياة البشر
أثرياء العالم يتبرعون من أجل حصد حياة البشر

التعهد بالعطاء كان التزامهم.. تكريس غالبية ثرواتهم كانت خطواتهم للمساعدة فى إصلاح المشكلات التى تسببت فيها شركاتهم.. تحالفات خيرية لخلق نظام عالمى جديد بحلول 2030.. نظام هدفه المعلن توفير بيئة ونظام صحى للجميع وخلق مستقبل أكثر شمولًا وعدلاً وإنصافًا، هكذا قدم أصحاب الرأسمالية الخيرية أنفسهم إلى العالم؛ ولكن وراء الأبواب المغلقة وبالتحديد من قلب نيويورك، اتفقوا على استخدام ثرواتهم والإنفاق الضخم فى المجالات التى تخدم مصالحهم بغض النظر عن أولويات الحكومات الوطنية ومنظمات المساعدة القائمة.

التقى أعضاء "نادى الخير" أثرياء العالم من رجال أعمال وعلماء ومشاهير الإعلام بمبادرة من الرئيس التنفيذى السابق لشركة مايكروسوفت "بيل جيتس"؛ اجتمع هؤلاء سراً عام 2009، بعد أن شعروا بالتهديدات التى باتت تشكلها الأزمة المالية العالمية، والكثافة السكانية المتصاعدة.. وأعقبها فى أغسطس 2010، انضم 40 من أثرياء أمريكا معًا فى التزام بمنح غالبية ثرواتهم لمعالجة بعض المشاكل الأكثر إلحاحًا عالميًا. وعلى إثرها تم تأسيس حملة "تعهد العطاء" من قبل "بيل وميليندا جيتس" ورجل الأعمال الأمريكى "وارن بافيت"، وبعد سلسلة من المحادثات مع فاعلى الخير فى جميع أنحاء العالم حول كيف يمكنهم بشكل جماعى وضع معايير جديدة لخلق عالم يتناسب مع مخططهم ويخدم مصالحهم؛ وتحت مسمى "الرأسمالية الخيرية" بدأت خططهم لإبطاء النمو السكانى وإصلاح الحكومات وإعادة ترتيب العالم من جديد، ما يحدث بدأت تظهر تفاصيله التى يشملها المشهد العالمى الآن.
كورونا تأخذ طريقها نحو الانتشار ولاتزال تجتاح العالم.. محاولات للسيطرة بتسريع إنتاج اللقاحات وعمليات التلقيح.. لا أحد بعيداً عن مرماها؛ دول متقدمة أصبحت فريسة لها، رغم إمكانياتها وتقدمها العلمى والتكنولوجي، إلا أنها تكبدت خسائر بشرية واقتصادية فادحة. لقد أظهرت الجائحة وجود خلل داخل المجتمعات التى كان من المفترض أن تكون قادرة على مواجهة الأزمات؛ وما حدث أن أثرياء العالم هم من حققوا ثراءً أكبر وهم من يديرون الآن الأزمة؛ من محاولات إيجاد لقاحات وحلول تكنولوجية عن طريق تطبيقات جديدة تجعل تنفيذ التباعد الاجتماعى أمرًا ممكنًا. هذه الحلول لم تكن وليدة اللحظة بل هى قرارات اتخذت منذ سنوات، خطوات وضعوها من أجل تحقيق مخططهم بإعادة تشكيل العالم من جديد الذى يعرف باسم «The Great Reset»، الذى من المفترض الوصول له عام 2030. وبالفعل بقيادة جيتس وبافيت وحينها كان يشاركهما الملياردير الأمريكى "ديفيد روكفلر" قبل أن يُتوفى عام 2017، كلهم قرروا إيجاد طرق جديدة لمعالجة مصادر القلق فى العالم النامي، ولا سيما "الاكتظاظ السكاني" والأمراض المعدية؛ والتزم المليارديرات الحاضرون بإنفاق ضخم فى المجالات التى تهمهم، بغض النظر عن أولويات الحكومات الوطنية ومنظمات المعونة القائمة، وفقًا لصحيفة "وول ستريت جورنال".
ووقتها تم تسريب تفاصيل اللقاء السرى إلى الصحافة وتم الترحيب بها باعتبارها نقطة تحول فى الأعمال الخيرية الكبيرة؛ كما أنه أرسل موجات صادمة عبر عوالم الأعمال الخيرية والمساعدة الإنمائية وحتى الدبلوماسية، وقيل إن المؤسسات البيروقراطية التقليدية مثل فورد وروكفلر وكارنيجى ستفسح المجال أمام "الرأسمالية الخيرية"، وهو نهج جديد للأعمال الخيرية سيقوم بها المليارديرات المشاركون فى تطبيق مهارات ريادة الأعمال مباشرةً على التحديات التى يواجهها العالم. وكان من بين الحاضرين الملياردير الأمريكى "جورج سوروس" أو المخرب كما يطلق عليه، والإعلامية الأمريكية "أوبرا وينفري"، وإمبراطور الإعلام "تيد تورنر"، بالإضافة إلى ﻣﺆﺳﺴﺔ "إﻳﻼى وادﻳﺚ ﺑﺮود".
ولقد تم ممارسة مثل هذه الأنشطة "الخيرية" فى الولايات المتحدة منذ حوالى قرن من الزمان، عندما أسس بارونات الصناعة مثل روكفلر وكارنيجى المؤسسات التى تحمل أسماءهم، ليتبعها فورد عام 1936. وخلال القرن الماضي، لعبت الأعمال الخيرية دورًا حاسمًا فى جميع أنحاء العالم فى ضمان هيمنة المؤسسات النيوليبرالية، التى تمثل تأييد الرأسمالية المطلقة وعدم تدخل الدولة فى الاقتصاد، مع تعزيز أيديولوجية الطبقة الحاكمة الغربية. ومع ذلك، فإن دور المؤسسات الخيرية كبير، حتى المساعى التى تبدو حميدة من قبل تلك المؤسسات، مثل مكافحة الأمراض المعدية، يمكن فهمها بشكل أفضل عندما تكون موجودة فى سياقاتها التاريخية والاجتماعية المحددة. نموذج العمل الخيرى فى عصر إدارة الصحة العالمية هو مؤسسة جيتس، فهى تتمتع بقدرات هائلة، وغير خاضعة للمساءلة بشكل أساسي، وغير مثقلة باحترام الديمقراطية أو السيادة الوطنية؛ تتنقل بحرية بين المجالين العام والخاص، وهى فى وضع مثالى للتدخل السريع والحاسم لصالح المصالح التى تمثلها. كما تجمعها علاقات العمل الوثيقة مع مؤسسات الأمم المتحدة والولايات المتحدة ذاتها والاتحاد الأوروبي، فضلاً عن الشركات الكبرى متعددة الجنسيات.
وفى مقال بعنوان "تعرّف على أقوى طبيب فى العالم: بيل جيتس"، بصحيفة "بوليتيكو" الأمريكية عام 2017 ، أوضحت الكاتبتان "ناتالى هويت" و"كارمن باون" أن نفوذ قطب البرمجيات، بوصفه مانح خير، على منظمة الصحة العالمية بات يثير الانتقادات حول الأولويات الخاطئة والتأثير غير المبرر. وعلى مدى العقد الماضي، أصبح أغنى رجل فى العالم ثانى أكبر مانح لمنظمة الصحة العالمية. هذا السخاء يمنحه نفوذاً كبيراً على جدول أعمالها. وهو أمر يمكن أن ينمو مع تهديد الولايات المتحدة وبريطانيا بقطع التمويل إذا لم تقدم الوكالة حالة استثمارية أفضل. والنتيجة، كما يقول منتقدوه، هى أن أولوياته أصبحت منظمة الصحة العالمية. وتتساءلان: هل ما حدث، صدفة؟. ولكن هناك الكثير من المال والسلطة والتأثير الذى يمكن تحقيقه بهذه المصادفة، فهو رجل وشركاؤه لا يكرهون على الإطلاق الاستفادة من جائحة الفيروس، ما يزيد الأدلة على تأثير جيتس وأعضاء نادى الخير غير المسبوق بطرق خفية.
وقبل عقد من الزمن، عندما بدأ جيتس فى ضخ الأموال فى صورة تبرعات للقضاء على الملاريا، أثار كبار المسئولين، بمن فيهم رئيس برنامج الملاريا التابع لمنظمة الصحة العالمية، مخاوفهم من أن المؤسسة تشوه أولويات البحث، من خلال "العمل الخيرى الاحتكاري"، حيث يطبق جيتس منهجه تجاه الكمبيوتر فى مؤسسته الخيرية. وقال ممثل منظمة غير حكومية مقرها جنيف، "لقد تمت معاملته مثل رئيس الدولة، ليس فقط فى منظمة الصحة العالمية، ولكن أيضاً فى مجموعة العشرين". كما أثار تركيز المؤسسة على إنتاج اللقاحات والأدوية، بدلاً من بناء أنظمة صحية مرنة، انتقادات وقلق بعض المنظمات غير الحكومية من أنها قد تكون قريبة من الصناعة ومن ثم جنى الأرباح. خاصة أن جيتس لديه خطة سرية لتحديد النسل وتقليل الكثافة السكانية فى العالم من خلال اللقاحات. كما وجهت 30 مجموعة داعمة للصحة العامة خطاباً مفتوحاً إلى المجلس التنفيذى لمنظمة الصحة احتجاجاً على جعل مؤسسة جيتس شريكاً رسمياً لها لأن إيراداتها تأتى من الاستثمارات فى الشركات التى تتعارض مع أهداف الصحة العامة، مثل إحدى كبرى شركات المشروبات الغازية العالمية. وعلى الرغم من الانتقادات، منحت المنظمة مركز "العلاقات الرسمية" لمؤسسة جيتس. ومن خلال مجلة "نيوزويك" 2012، أعلنت «ميليندا جيتس» عن نيتها إعادة إدراج برنامج "تنظيم الأسرة" إلى جدول الأعمال العالمى وقدمت ادعاءً مشكوكًا فيه بأن النساء الأفريقيات كن يطلبن المساعدة من أجل إخفاء استخدام موانع الحمل. وحينها تفاخرت بأن القرار الذى اتخذته وحدها "من المرجح أن يغير حياة جميع أنحاء العالم"، وأعلنت أن المؤسسة استثمرت 4 مليارات دولار حتى وصل إلى 120 مليون امرأة عام 2020.
وفى محاضرة عامة عام 2010، أرجع جيتس ظاهرة الاحتباس الحرارى إلى "الزيادة السكانية" ووصف النمو السكانى الصفرى كحل يمكن تحقيقه، إذا كان هناك برنامج جاد وناجح فى مجال اللقاحات الجديدة والرعاية الصحية وخدمات الصحة الإنجابية. وأوضح الخبير الاقتصادى "أوتسا باتنايك"، أن جيتس يعلم جيدًا أن الفقراء الذين تستهدفهم حملاته مع النخبة يمثلون نسبة ضئيلة من الضرر البيئى الذى يكمن وراء تغير المناخ. وأضاف باتنايك، أنه عندما يتم تعديل أرقام السكان لمراعاة نصيب الفرد من الطلب الفعلى على الموارد، على سبيل المثال، الوقود الأحفورى والغذاء، فإن أكبر "ضغط سكانى حقيقي" لا ينبع من الهند أو أفريقيا، ولكن من البلدان المتقدمة. وتدرك مؤسسة جيتس جيدًا هذا الخلل وتعمل ليس لإصلاحه بل للحفاظ عليه؛ من خلال إلقاء اللوم على الفقر ليس على الإمبريالية ولكن على الزيادة السكانية فى الأماكن التى لا يريدونها. ومع ذلك، فإن الحجم الهائل لاستثمار جيتس فى "تنظيم الأسرة" يشير إلى أن طموحاتها تتجاوز مجرد الدعاية. وبالإضافة إلى برنامج توزيع وسائل منع الحمل بمليارات الدولارات الذى تمت مناقشته سابقًا، يقدم جيتس وداعموه دعمًا بحثيًا لتطوير وسائل منع حمل جديدة عالية التقنية وطويلة الأمد؛ على سبيل المثال، إجراء التعقيم بالموجات فوق الصوتية للرجال وللإناث. وفى الوقت نفسه، تضغط المؤسسة بقوة على حكومات العالم الثالث لإنفاق المزيد على تحديد النسل ودعم البنية التحتية.
وكان تأثير مؤسس مايكروسوفت على منظمة الصحة العالمية موضع تساؤل مرة أخرى خلال السباق لخلافة المديرة العامة السابقة للمنظمة "مارجريت تشان." وترجع صحيفة "التايمز" البريطانية، إلى أن القوة الرئيسية وراء هذا التغيير هى جيتس وقراره بالتبرع بكل ثروته لصياغة بعض أفكاره الخاصة تجاه العالم. وقد تبع هذا المثال آخرون، أبرزهم سوروس وتورنر وبافيت. وبالفعل، فإن هذا الشكل الجديد من الأعمال الخيرية، الذى يحاول رجال الأعمال عن طريقه تغيير العالم. ومع ذلك، فإن آثار تطور الرأسمالية الخيرية عميقة، نظراً إلى أن الثروة الهائلة للأثرياء تجعلهم أقوياء مثل بعض الدول التى لديها مقاعد داخل الغرف الموقرة للأمم المتحدة.
والحقيقة، يتزايد الآن عدم المساواة، وتجد كلٌ من الشركات والأثرياء طرقًا لتجنب دفع الضرائب، باسم العمل الخيري، ونجد شكلاً جديدًا، يعيد تشكيل بُعد آخر للسعى البشرى لمصالحه الخاصة. هذا مجتمع لم يعد فيه الأثرياء راضين عن ممارسة الأعمال التجارية؛ ويجب عليهم السيطرة على السلع العامة "قضايا تهم البشر أو حتى البشر أنفسهم". وفى النهاية، فإن القصة الحقيقية تدور حول عالم يتسم بعدم المساواة التى تزداد سوءًا عامًا بعد عام.