كتب: محمد المنسي قنديل
توقفت طويلا وأنا أراقب الطابور الذى يتحرك ببطء، صف طويل من الرجال والنساء ينتظرون لفترات طويلة، ويتحركون بخشوع عند اقترابهم من مدخل المعبد، يدخلون بين أعمدة المعبد الحجرية، يطوفون حول قدس الأقداس ببطء وصمت، يتأملون النقوش المحفورة كأنها تعاويذ سحرية، تطل عليهم شمس حوريس فى منتصف الواجهة الحجرية، يواصل الطابور سيره دون انتهاء، يفرض المعبد الفرعونى الصغير رهبته على الجميع، يحولهم الى نوع من طالبى الغفران، يتوسلون فى صمت للآلهة القادمة من وادى النيل، بعد سنوات قليلة من قدوم المعبد تحول إلى أيقونة متفردة لا يكف سكان مدينة نيويورك وزوارها عن التدافع إليه، ربما لأنه يضيف لمسة أسطورية للمدينة المادية بكل ما فيها من ناطحات سحاب ومؤسسات تتحكم فى مصير العالم، ومتحف المتروبوليتان الذى يحتل الجانب الغربى من نيويورك يحتوى على ملايين القطع، ثلاثة ملايين ونصف المليون على وجه التحديد، ويستمد قيمته من القطع المتفردة التى يحتويها، قطع نادرة لايوجد لها نظير، أكسبها عبق التاريخ والفرادة قيمة لاتقدر بثمن، يكفى فقط أن تشاهدها أو تدور حولها دون أن تجرؤ على لمسها، والعديد من هذه المقتنيات تم الحصول عليها بأثمان مرتفعة، وبعضها اضطرت إدارة المتاحف لطرحها للاكتتاب العام حتى تتمكن من جمع ثمنها، ولكن أفضل هذه التحف قيمة وأعرقها تاريخا هى الآثار المصرية، زينة أى متحف، جاءت إليه بلا ثمن تقريبا، إما عن طريق هدايا الملوك أو نهب اللصوص، ويشهد المتحف على براعتهم فى هذا الأمر، معبد ادندرةب بالذات كان هدية مجانية من الرئيس المؤمن أنور السادات لصديقه العزيز نيكسون الذى كان على وشك السقوط من فوق كرسى الرئاسة واعتقد السادات أنه لو عاد إلى أمريكا ومعه هذا المعبد سيكون سببا فى إنقاذه، كان نيكسون رئيسا مقيدا، خرج عن القواعد فاستحق العقاب، بينما كانت سلطة السادات مطلقة، يملك البشر والحجر، ويفرط فى شواهد التاريخ المصرى دون أن يحاسبه أحد، ومثل العديد من حكام مصر الغابرين قد تباروا فى إهداء آثارنا للغير، كانو يتسلطون علينا دون أن يأبهوا بنا أو بتاريخنا، يبحثون عن احترام زائف من الغرب بالتفريط فى قطع أثرية لا يملكونها ولا حق لهم فى إهدائها، وكلما ذهبت إلى قلعة القاهرة وشاهدت الساعة المعطلة فى مسجدها تذكرت أنها كانت فى مقابل المسلة الرائعة التى تزين ميدان االكونكوردب باريس، أهداها محمد على باشا للامبراطور الفرنسى نابليون الثالث، ورد عليه الامبراطور بهذه الساعة، ساعة هزيلة دائمة التعطل ولكنها ربما كانت المرة الوحيدة التى تلقينا فيها مقابلا لواحدة من آثارنا، ويقال إن الزعيم الخالد عبد الناصر شخصيا قد فرط فى خمسة معابد كاملة، وقبل ذلك تبارى الولاة الاتراك فى إهدار المزيد منها غير ما نهبته جيوش الاستعمار، ولكن أعدادا مضاعفة من هذه الآثار خرجت على أيدى اللصوص والمهربين، خرجت دون أن ندرى بها وبيعت بلا مقابل، وهذه نقطة تماس يتشارك فيها الملوك واللصوص، كلاهما فرط فى كنوز تاريخية دون أن يعرفوا قيمتها، ولم يكونوا جميعا لصوصا صغاراً، كان فيهم علماء آثار مشهورون، ولعل أهم قطعة أثرية فى العالم وهى رأس نفرتيتى، أخرجها العالم بورشاردت من مصر بعد أن غلفها بالطين، ومتحف المتروبوليتان وحده شاهد على النهب الكبير التى تعرض له هذه الآثار بطريقة شيه مجانية، فالمتحف لايعرض قطعا أثرية متناثرة ولكن مجموعات كاملة، وقد زرته أكثر من مرة على مدى سنوات متقطعة، فى كل مرة أجد فيه مجموعة جديدة من الآثار المصرية، فهناك قاعة كاملة تضم كل تماثيل الملكة حتشبسوت فى مختلف أطوارها حتى وهى متنكرة على هيئة رجل، وهناك أيضا بردية يبلغ طولها 27 مترا كاملة، إضافة لبوابات المعابد العملاقة التى لا أدرى كيف تم تقطيعها ونقلها، والكثير من تماثيل الآلهة التى وضعت لحماية مصر وعجزت عن حماية نفسها، وهناك قاعة كاملة معلق على جدرانها صورة لمقبرة مكتشفة حديثا، كل القطع فيها مكومة على بعضها وتراب الزمن راقد عليها، ثم تم استخلاص كل هذه المحتويات وتنظيفها ووضعها فى واجهات العرض، توابيت وتماثيل وقطع من المجوهرات، بينها تمثال رهيف ونادر لفلاحة مصرية عائدة من السوق وهى تحمل أوزة، صورة هذا التمثال يضعها المتحف فى فخر فى صدر ملصقاته الجديدة، وهناك أيضا مجموعة نادرة من المجوهرات والحلى التى كانت تتزين بها ملكات مصر، ذهب وعقيق وأحجار كريمة وتصميم أصيل، من المؤكد أننى لم أرها من قبل، ومن المؤكد أن اللصوص الذين أوصلوها للمتحف أخذوا ثمنا بخس لا يوازى قيمتها ماديا ولا تاريخيا، تاريخ كامل تم سرقته و نقله عبر المحيط، إن القول بأن مقبرة توت عنخ آمون كانت هى الوحيدة التى اكتشفت كاملة يبدو خاطئا، فهناك عشرات المقابر التى تحتوى على قطع فنية لايجود الزمان بمثلها قد تم اكتشافها سرا وتسربت من بين أيدينا، وقد توالت علينا التحذيرات من هيئة اليونسكو من أجل أن نوقف هذا السيل من القطع المهربة دون جدوى، أنا حزين بالطبع لأننا فقدنا هذه الثروة التى يمكن أن تضاف لرصيدنا القومى، لكن على الرغم من ذلك على أن أعترف المتروبوليتان وغيره من المتاحف قد أكرمت وفادة هذه الآثار ووضعتها فى أهم مكان عندها وحسنت صورة عرضها أكثر مما فعلنا، لم يكدسوها فى المخازن أو يتركوها نهبا للسرقة، وكلنا أمل أن يحافظ المتحف الكبير الذى يستعد للافتتاح على بقايا هذه الثروة وأن يصلح كل الأخطاء الماضية.