سوق الجمال في دراو.. مزار سياحي غير معترف به

سوق الجمال في دراو
سوق الجمال في دراو

◄ يقام يومي السبت والأحد من كل أسبوع
◄ التجار يمارسون العادات القديمة في البيع والشراء
◄ التعاملات تتم بدون وثائق.. وكلمة الشرف هى ميثاق البيع

 

البيع والشراء بكلمة شرف دون سداد نقود ولا تحرير شيكات أو كمبيالات، معاملات قد انقرضت إلا في سوق الجمال بنجع الغابة شرق مدينة دراو.

ينعقد السوق يومي السبت والأحد من كل أسبوع بنجع الغابة شرق مدينة دراو التي تقع على بعد 40 كيلومترا شمال مدينة أسوان، حيث يوجد أكبر سوق للجمال في مصر ويحضر إليه التجار من جميع محافظات مصر، وتبلغ مساحة السوق 9 أفدنة تقريبا وهو مملوك لشركة الأسواق المصرية.

وللتعرف على طبيعة تجارة الجمال انتقلت الأخبار لمقر السوق بنجع الغابة، وعند الاقتراب من السوق تفاجئ بأصوات خناق أو عراك ممزوجة بأصوات الجمال، وفوضى عارمة تكاد أن تثني عزمك عن إكمال مهمتك الصحفية في سوق الجمال، وعند الدخول لفناء السوق تجد وزحام واختلاط متلاحم بين البشر والجمال معا في حلقات متقاربة.

ومن أول وهلة بعد دخول السوق تعرف أن هذه الفوضى ما هي إلا نظام السوق وأصوات العراك والخناق ما هي إلا عملية التفاوض والمداولات التي تعلو خلالها الأصوات وتهبط فجأة لتسمع بعدها جملة "يفتح الله" وهي تدل على رفض عملية البيع، أو جملة "الله يبارك" والتي تدل على الرضا والموافقة على البيع.

بداية الرحلة 
وللتعرف على نشأة السوق وعملية الشراء والبيع من البداية التقينا بالحاج علي مبارك حسين تاجر مصري من دراو، والذي قال إن السوق أنشأت في الثلاثينات من القرن الماضي، وقبل ذلك كانت بمدينة فرشوط، ثم انتقلت إلى مدينة إسنا ومنها لمدينة دراو لقربها نسبيا من الحدود السودانية.

وقال أحمد عبد الله البدوي تاجر من دينة دنقلة بالسودان، إن الرحلة تبدأ بعد أن يتم تجميع الجمال من مراعيها شرق وغرب وشمال وجنوب السودان مثل دارفور والجنينة وكسلا والأبيض ودنقلا وعنانيف وكواهلة وبياله وغيرها، في مدينة دنقلة  وبها يتم الفحص البيطري من قبل السلطات السودانية على الجمال.

ويكمل: "تبدأ الرحلة إلى مصر وقديما كانت تسير القافلة عبر درب الأربعين وتستغرق الرحلة 40 يوما ولذا أطلق على الطريق درب الأربعين وكان يرافق الجمال في رحلتها 4 رعاة أو أكثر حسب عدد الجمال بالإضافة إلى مقتفى الأثر ويعرف بالخبير نظرا لخبرته في السير في دروب الصحراء، والآن يتم شحن الجمال في سيارات بعد تجميعها في دنقلا ويرافقها أيضا عدد من الرعاة وتصل يوم الإثنين من كل أسبوع إلى ميناء أرقين وهناك يتسلم الوكلاء  شحنة الجمال".

ويأخذ على مبارك طرف الحديث قائلا: "يدخل السوق كل أسبوع ما يقرب من 5 آلاف جمل مملوكة للـتجار السودانيين، ولكل تاجر سوداني وكيل مصري يتولى عنه استلام الجمال وبيعها نيابة عن التاجر السوداني ويوجد بدراو حوالي 11 وكيلا لكل منهم مكتب ومندرة داخل السوق، وبعد إنهاء الإجراءات الجمركية وإجراءات المحجر البيطري بمدينة أبو سمبل، تُشحن الجمال إلى مدينة دراو  لتتوجه إلى ما يسمى التبة وهي أرض عالية مستوية تسمح بنزول الجمال من السيارة ويتم دخول سيارات النقل إليها لإنزال الجمال بعد وضع السيارة على مستوى التبة، بحيث لا تتعرض الجمال للإصابة أثناء نزولها من السيارات، ليتم بعد ذلك تجميعها في فناء التبة وحصرها لتبدأ في الدخول إلى الأحواش الخاصة بالوكلاء ويتم وضع العلف والمياه لها داخل الحوش لحين انعقاد السوق".

وبعد صلاة فجر السبت تبدأ عملية نقل الجمال من الأحواش إلى سوق الجمال بصحبة التاجر السوداني والوكيل، ويحرص كل منهم على "تبريك" جماله أمام مكتبه، ويبدأ التجار في الوقود إلى السوق بدء من السابعة صباحا، وبوصول الجمال إلى السوق تبدأ عملية البيع والشراء التي تتم بالمزاد ويتكون مثلث البيع داخل السوق من التاجر السوداني  "صاحب الجمال" والوكيل المصري والمشترى الذي غالبا ما يكون تاجر

أو جزار أو مزارع حيث يتواجد كل وكيل وتاجر بجوار الجمال الخاصة به في حلقات داخل السوق التي تكتظ بالجمال ويتم ربط إحدى سيقان الجمل الأمامية بثنيها للحد من حركته داخل السوق. حيث تبدأ عملية الشراء والبيع داخل السوق وتبدأ عملية التفاوض في شراء الجمال بين المشترى والوكيل المصري الذي يحاول التوفيق مع التاجر السوداني على السعر، ولك أن تتعجب من مشهد التفاوض على البيع والذي قد تظن للوهلة الأولى أنه مشاجرة حيث تتعالى الأصوات ويحتد النقاش ويحدث نوع من الشد والجذب الذي قد يستمر لفترة يصر خلالها التاجر السوداني على سعر ويتفاوض الوكيل للوصول إلى سعر يرضي التاجر السوداني والمشترى، وبمجرد الاتفاق على السعر تبدأ مرحلة شحن وتحميل الجمال على الشاحنات سواء النقل الثقيل أو النصف أو الربع نقل من فوق تبة صغيرة داخل السوق تستخدم لتحميل الجمال على السيارات لنقلها حيث وجهة المشترى سواء داخل أسوان أو خارجها. وقبل غروب شمس السبت تبدأ الجمال المتبقية من اليوم الأول لانعقاد السوق فى العودة إلى الأحواش فى أنتظار حلول اليوم التالى حيث تعود الجمال من جديد صباح الأحد ليبدأ مسلسل البيع والشراء فى اليوم الثانى لانعقاد السوق.

ويشير محمد بنداس تاجر جمال بمدينة دراو لأن أسعار الجمال تخضع للعرض والطلب وفى مواسم الأعياد وشهر رمضان يكون البيع أكثر وبالتالى السعر أيضا.

وقال يختلف سعر الجمل طبقا لعمره وحجمه والغرض من شراءه. فهناك جمل يشترى ليقتنى وله مواصفات خاصة ويشتريه المزارعون لاستخدامه في تحميل و نقل محاصيل زراعاتهم خاصة في المناطق التى لا تدخلها سيارات النقل . وهناك الجمل القشاش الذي يشتريه التجار ويعلفونه  لمدة شهرين أو ثلاثة ويباع بعدها على أنه جمل بلدى، والجمل كبير العمر يسمى "ناب " والجمل  "القعود" وهو جمل صغير السن ويبدأ بيعه من عمر سنة وفي حالة ذبحه في هذا العمر يعطي حوالي 70 كيلو لحم صافي.


وأشار مبارك لأن عملية البيع بالجملة تسمى "الحبل" حيث يشترى التاجر كل صفقة الجمال أو جزء منها وتباع جميعها بسعر موحد دون تفرقة بين وزن وعمر الجمال، وعملية البيع بالتجزئة تسمى "الفرادى" حيث يشترى التاجر جمل أواثنين. وتنتهى البيعة إما بالرفض وفى هذه الحالة يقول التاجر "يفتح الله" للتعبير عن رفض السعر المقدم من المشترى. وفى حال إتمام البيعة يقول "الله يبارك" وتتراوح أسعار الجمال بين 15 و25 ألف جنيه.    


الوكيل
هو من ينوب عن التاجر السوداني في عملية استلام وبيع الجمال وتحمل مخاطر البيع بالأجل هذا ما أكده أحمد عباس تاجر سوداني، وأشار إلى أن كل وكيل له عملائه الذي يشترون منه بالكلمة ومنهم من يسدد جزء من قيمة الجمال ومنهم من يدفع بعد التصرف فيها سواء بالبيع أو الذبح.

والوكيل يسدد للـتاجر السوداني قيمة الجمال المباعة بعد انقضاء السوق ويتولى هو تحصيل قيمة المبالغ المستحقة، وأكد عباس، لأن  الوكيل يتقاضى عمولة مجزية عن مجمل الأعمال التي يؤديها بدء من استلام الجمال على الحدود المصرية السودانية، وتابع عباس حديثه عن تجارة الجمال وأصلها قائلاً: "هذه المهنة ورثناها أب عن جد سواء في مصر أو السودان، وخرجنا إلى الدنيا وجدنا آبائنا وأجدادنا يعملون في تجارة الجمال فهى تجارة قديمة بين مصر والسودان، لأن الجمال تأتي عن طريق السودان وتدخل مصر عبر الحدود المصرية السودانية ويستفيد منها أهل البلدين فى الربح المادي والتجاري والسفر وغيره، مؤكداً أن تجارة الجمال تغيرت عن السابق ولم تعد تجدي على التاجر السوداني والمصري بسبب زيادة الإجراءات الجمركية وزيادة الرسوم المفروضة وتحكم الدولار في سعر السوق بين السودان ومصر، مؤكداً أن تعويم الجنيه وارتفاع قيمة الدولار خسارة على التاجر السوداني والمصري أيضاً "على حد قوله" وأيده محمود عنبر تاجر جمال من أسيوط .

وقال إن الغلاء ارتفاع سعر الدولار أثر بالسلب على حجم تجارتى وأصبحت أشترى نصف الكمية التى كنت أشتريها من قبل بسبب ارتفاع الأسعار، والمزارع الذى كان يشترى منى الجمل بسعر 15 ألفا أصبح يشتريه بسعر 25 ألفا، ويقتنيه عدة شهور ويبيعه بمكسب قليل.

مشاهد داخل سوق الجمال 
ومن المشاهد الغريبة التي تجدها داخل السوق ضرب الجمال بالعصا أثناء عملية البيع للدلالة على أن الجمل يرمى لحم كثير، كما تجد أن بعضها "مربوط" من إحدى ساقيه الأماميتين دلالة على صحته وقوته وأيضا حتى لا يجري خارج السوق أو يختلط بجمال تاجر آخر.

ويُعقل أي "يربط بلغة التجار" الجمل المشاكس من كلا ساقيه الأماميتان حتى لا يقف، وتجد على جلد رقاب الجمال وأرجلهم علامات كوى بالنار تتم في السودان وهي علامات محددة لكل تاجر أو قبيلة و ترمز لتبعية ملكية الجمال لعائلة أو تاجر محدد.

وفي حالة فقدها يتم التعرف عليها وإعادتها لأصحابها، وهناك علامات بالحبر الأخضر والأحمر والأزرق وتكون في شكل حروف أو أرقام أو رسومات وتخص الوكلاء في دراو.

وتدل على تبعية الجمال لوكيل بعينه، والمشهد داخل السوق لا يقف على بيع وشراء الجمال فقط، فهناك أنشطة أخرى هامشية، حيث تجد عدد من الباعة المتجولين داخل السوق، منهم من يبيع الحدادة والأدوات حديدية التي تستخدم في أغراض خدمة الجمال، وباعة الشاي والقهوة والمدغة والصعوت والشيشة أيضا.

ولا يخلو السوق من باعة الملابس الصعيدي كـ"الجلاليب والسديرى والتقشيطة والشال وعصا الخرزانة"، ومن المشاهد المألوفة هو تواجد أعداد من الأطفال الذين يحرص ذويهم على اصطحابهم للسوق لتعلم المهنة منذ الصغر.

ومن أغرب المشاهد وجود أعداد من السياح الذين يحرصون على حضور مشهد سوق الجمال الذي أصبح مزارا سياحيا يحرص السياح على زيارته والتقاط الصور مع الجمال وفوقها . - ألا أن وزارة السياحة لم تستغل السوق كمزار سياحي حتى الآن، وأيضاً مزار للمصورين الفوتوغرافيين المحترفين والمحطات التليفزيونية الدولية والمحلية.