مصر الجديدة :

من تجليات العزلة

إبراهيم عبد المجيد
إبراهيم عبد المجيد

اقتربنا من العام الآن والعالم يصرخ من الكورونا التى ملأت فضاء البلاد. بيانات من هيئة الصحة العالمية تتغير كل يوم. اجتهادات من شركات الأدوية لعمل لقاحات مضادة للوباء. قرارات من الدول بالإغلاق للموانئ والمطارات. أغلقت المساجد والكنائس والمسارح والسينمات والمقاهى والفعاليات الفنية والثقافية. فُتحت ثم أغلقت ثم فُتحت وستغلق مع الموجة الثانية للوباء. بحكم الصحة وعدم القدرة على الحركة كما كنت من قبل وليس خوفا من الوباء فقط كان ملاذى البيت. لم أذهب إلى مقهى البستان أو غيره لألتقى بالكتاب غير أربع مرات فى عام. منعنى سوء الإنترنت حيث أعيش فى حدائق الأهرام من المشاركة فى أى فعالية بتطبيق زووم أو سكايب أو غيرهما. صرت أضحك وأنا اتذكر أبا العلاء المعرى رهين المحبسين: البيت والعمى، أنا الذى صرت رهين ثلاثة محابس: عدم القدرة على الحركة كما كنت من قبل، والوباء، وسوء الإنترنت. رغم ذلك قرّبت منى صفحات الفيسبوك وتويتر التى تفتح معى قليلا كل بعيد، ثم صارت تفجر فى نفسى سؤالا: هل عرفت يوما كل هؤلاء الناس وأين هم الآن؟ بدأت فى كتابة رواية أبحث بها عن وطن آخر بلا وباء ولا يمنع من الحركة. أخذَت الوقت معها لكن الكتابة لا تشغل اليوم كله. صارت الشرفة هى إطلالتى على الفضاء. رأيت الأشجار صامتة ذاهلة عما حولها فلم يحرك الخريف بعد الهواء. بدت لى ميتة لكن كل صباح حين تسقسق فوقها العصافير أعرف كم هى جميلة قوية تعلن عن صمودها فى الفراغ. رأيت القطط والكلاب تحتى فى الشارع قد زادت فى بداية الوباء. قرأت أنها تنقل العدوى وأن كثيرا من أصحابها أطلقوها فى الشوارع خوفا من الوباء. لا أصدق كل ما يقال عن الوباء وكيف ينتقل. أصدق فقط أنه ينتظر فى الطرقات. كانت الكلاب تنبح دائما مع صوت الأذان. سألت يوما صديقا عن هذه المسألة فقال لى إنها بدورها تسبّح الله. ثم رأيتها تصمت بعد أن حل الوباء فلم أجد سببا. لم أسأل لأنى صرت أشعر بالأذان كما لم أشعر به من قبل. صار نسمة شجية تنقلنى إلى سماء الله. أرى الكلاب كل يوم لا تنبح ويزداد تطلعها إليّ وقت هيامى مع الأذان. أدركت أنها مشفقة عليّ أو تشاطرنى الشجن، ثم رأيتها بعد قليل تجرى تنبح فى الشارع الخالى بينما القطط تمشى صامتة جوار الجدران. فكرت أن الكلاب تنادى شيئا لا يراه غيرها بينما القطط ترى أنه لا فائدة فى هذا العالم. أخذنى التفكير إلى تناسخ الأرواح. مرّ علىّ شريط ذكريات ليس مكتملا لكنى اقتنعت أن هناك من كانوا فى الأصل أسودا أو ضباعا أو ذئابا أو قططا أو حتى كلابا!. قلت رأفة بالبشر: فليكونوا جميعا طيورا ولأتذكر معانى أصواتهم الجميلة. فالنسر حين يصرخ فى الفضاء يقول «يا بن آدم عش ما شئت فإنك ميت» بينما الهدهد الجميل حين يسقسق يقول: «من لا يَرحم لا يُرحم» ويقول للمغترّ «كل حى ميت وكل جديد بالٍ» أما الطاووس فهو يمشى أمامك نافخا ريشه.. لا يتباهى لكنه يقول لك فى صمت: «احترس فكما تدين تُدان» بينما الكروان يصدح «الملك لك الملك لك الملك لك». تذكرت كثيرا الحكايات الشعبية التى تقول إن الله خلق الصبر فى شكل حمار، والشجاعة فى صورة الأسد، والأمانة فى صورة كلب، والمكر فى شكل ثعلب. فضحكت وتساءلت لماذا تشتم الناس بعضها بـ»يا بن الكلب» وهو الأمين الذى لديه أمل فى شيء لا نراه؟! لماذا لا يشتمون بـ «يا بن التعلب» مثلا او «يا بن التعبان»؟! تذكرت أنهم لا يتشاتمون الآن بل يفجرون القنابل ويطلقون الرصاص. أغمضت عينى اتساءل: هل لو عدنا قططا لا تهتم بهذا العالم وتمشى صامتة بين الجدران سيتركنا هذا العالم نعيش فى سلام؟!