مهرجان برلين يطارد أشباح هتلر

مهرجان برلين
مهرجان برلين

خالد محمود

كثير ما تحاول السينما الألمانية التطهر من خطايا حقبة النازية وزعيمها هتلر، بعدما أدرك الجيل الحالى من السينمائيين أن نظام «الفوهرر» ورط المجتمع، فى مجازر دموية وحروب ومتاهات وأوجاع لا حصر لها، ما زلت تنزف حتى اليوم.

الألمان يحاولون أن يثبتوا للعالم أنهم بريئون مما فعلته النازية، ولهذا تطرح شاشة مهرجان برلين السينمائي الدولى، الذى أدارته النازية لفترة طويلة، كل عام تقريبا، فيلما تكشف من خلاله للأجيال الجديدة أحلك فترات الديكتاتورية السوداء التى مزقت الأمة من الداخل، وفاجأنا منظمو المهرجان الأسبوع الماضى بسحب جائزة «ألفريد باور» المرموقة من الدورة الجيدة، بعد الكشف عن أن باور، المدير المؤسس للمهرجان والتى تحمل الجائزة اسمه كان مسؤولا نازياً رفيع المستوى يتخفى تحت رداء السينما قاهرا مبدعيها.


وأعلنوا أنّ التحقيق الذي أجرته صحيفة «دي تسايت» اليومية حول تاريخ باور كشف مكانته، وأنه جزء من الجرائم التى ارتكبت فى حق الشعب، وباور، أوّل مدير لمهرجان برلين السينمائي الدولي، كان يشكل جزءا كبيرا في سياسة أفلام النازيين التى تعبث بالتاريخ، وفي ضوء هذه النتائج الجديدة، يلغى المهرجان جائزة الدبّ الفضي» ألفريد باور برايز « على الفور وهى الجائزة التي كانت تمنح «للفيلم الروائي الذي يفتح آفاقا جديدة في مجال الفن السينمائي.


وأكد المسؤولون أنهم انتهزوا الفرصة لبدء بحث أعمق حول تاريخ المهرجان بدعم من خبراء، بأنهم سيظهرون اى شوائب تمس المهرجان العريق الذى يقدم رسالة سامية لصناع السينما فى العالم.
 صحيفة دى تسايت، أجرت  بحثاً مضنياً في الأرشيف الوطني، ومن بين الحقائق التي اكتشفتها، وجدت أن باور الذي ترأس المهرجان من العام 1951 حتى العام 1976، احتلّ مرتبة عالية في مديرية الرايخ للأفلام ، وان هذا كان خداعا كبيرا.


ووجدت الصحيفة أيضاً، وفق الوثائق التي تعود إلى الحقبة النازية، أنّ باور كان عضواً ناشطاً في «فرقة العاصفة»، الجناح شبه العسكري للحزب في مرحلة سعيه إلى السلطة.


وباور الذي توفي في 1986 وهو العام الذي أسّست فيه الجائزة التي تحمل اسمه، لعب دوراً رئيسياً في مراقبة الممثلين والمنتجين وغيرهم من العاملين في صناعة السينما التي كانت تحت قبضة وزير الدعاية السياسية يوزف جوبلز الحديدية في الرايخ الثالث، إذ أسسوا  إدارة للسينما عام 1942 ، بهدف فرض رقابة مشددة على الإنتاج السبنمائي الالمانى ، وقد ساهم باور من خلال مهامه هذه في إضفاء مشروعية» على هذا النظام.


ونجح مؤسس المهرجان ومديره لربع قرن، فى إخفاء تاريخه لعقود طويلة، لكن انكشف السر الآن والفضيحة والماضى الأسود، وهو ما دفع ادارة  المهرجان إلى إجراء دراسة مستقلة من معهد التاريخ المعاصر في ميونيخ، وحصل المعهد على أدلة تظهر انتماء باور إلى الحزب النازي وإعجابه الكبير بالجناح شبه العسكري للنازيين.


مهرجان برلين السينمائي، أحد أبرز مهرجانات السينما في أوروبا، يعى رؤية السينما الكاشفة لعورات الساسة ومن تبعهم حتى لو كانوا جزء من الفن نفسه، وهو يفاجئنا فى كل دورة بعرضه أفلام تنتمى لهذا الفكر ويعيد طرح الأسئلة من جديد، مثل ذلك السؤال الذى تبادر الى ذهنى عقب مشاهدتى الفيلم الألمانى «إليزر، 13 دقيقة»، وهو «ألم يحب الشعب الألمانى هتلر؟».. بالقطع وطبقا لاختيار الفيلم الذى عرضه مهرجان برلين وطبيعة أحداثه والحفاوة الكبيرة التى استقبله بها الجمهور، فالإجابة هى «لا».


يروى الفيلم واقعة تاريخية شهيرة وهى محاولة نجار ألمانى يعزف الموسيقى اغتيال أدولف هتلر وهو يخطب وسط كبار قادة الجيش، خطف الانتباه لدرجة التوحد مع البطل وربما تمنى المشاهدون الألمان لو كان هذا النجار قد نجح فى مهمته، وحينئذ كان سيغير التاريخ بحق، لكنه فشل فى اغتيال الزعيم النازى قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية.


بالقطع لم يكن جورج إليزير وحده الذى دفع ثمن محاولته ،لكن هناك بطولات عدد من الألمان تحدوا النظام النازى ودفعوا لذلك أثمانا غالية من السجن والتعذيب والموت.


فى الفيلم نرى جورج وقد قرر تخليص بلاده من الحكم النازى، عبر اغتيال هتلر وعدد من مساعديه فى مصنع فى مدينة ميونيخ جنوب ألمانيا، ومن أجل ذلك قام بصنع قنبلة موقوتة وزرعها فى المصنع بحرفية شديدة وراء منصة هتلر فى القاعة التى يلقى بها خطابه فى الثامن من نوفمبر 1939 فى محاولة لقتله، لكن الزعيم النازى، الذى كان فى قمة قوته، غادر المكان صدفة قبل 13 دقيقة من لحظة انفجار القنبلة التى صممها إليزر بنفسه لسبب طرأ فى اللحظة الأخيرة على جدول مواعيده.


وفى تلك اللحظة يتم إلقاء القبض علي جورج، ليدخل مرحلة أخرى من مشاهد التعذيب والقسوة من أجل اعتراف بتفاصيل عمليته ومن يقف وراءها، وهنا تبرز ملامح الآداء الرائع لبطل العمل» كريستينا فريديل»  الذى هز المشاعر بقدرته على التحمل والمراوغة أثناء الاستجواب وفى محبسه.


مخرج الفيلم الألمانى أوليفر هور شبيجل، قدم هتلر الديكتاتور وزمنه الذى لا تزال أشباحه تطارد كلّ ألمانى. وعبر تقطيع رائع للمشاهد تؤدى إلى تداخل الزمن والمكان، وتربط العلاقة بين حالة إليزر داخل جدران الحبس وحالة مجتمعه العامة، لتؤكد أن الحدث أعم وأشمل من كونه تصرفا فرديا، فجورج إليزر كان رجلا مسيحيا عاديا محبا للحياة يعزف الموسيقى، ويعمل بالنجار وكان بعيدا عن السياسة ولم يكن منضما إلى تنظيم من التنظيمات السرية أو  الاحزاب المقاومة أو غيرها، وأن ما قام به كان بوازع شخصى.
الفيلم لا يطرح بطل قصته كأسطورة ولكن يصوّره رجلا بسيطا يؤمن بالحرية، ويقف مدافعا عنها بجسده وبكلّ ما يملكه.