إنها مصر

ولماذا يرحل العصفور ؟

كرم جبر
كرم جبر

أنا من جيل أغانى عبد الحليم حافظ، الزمن الذى كانت فيه المرأة ملكة متوجة، تحوطها المشاعر النبيلة والكلمات الجميلة، وكانت أقوى عبارة معاكسة «عنيكى حلوة يا هانم»، كان البشر غير البشر والنساء غير النساء.
من هى تلك الفتاة التى لا تحلم بأيام «فوق الشوك»، «صافينى مرة»، «خسارة خسارة فراقك يا جارة»، «يا مواعدنى بكرة»، و» لو قلت لك حبيت بتسبنى اتكلم وحدى «، وغيرها من الإبداعات التى تدور فى فلك أن المرأة سر الحياة وسحرها وعطرها وأجمل شيء فيها.
كانت بنت الجيران مصدر الوحى والإلهام، ومن منا لم يحب بنت الجيران وتعذب من أجلها، وتفتحت فى حنايا قلبه ورود الحب العذرى ؟، والآن أصبحت بنت الجيران مطمعاً لكل ولد صايع هلفوت.
فى ظل هذه الأجواء أن تدفقت نسائم الرومانسية، من أم كلثوم التى تشدو «ولما أشوفك يروح منى الكلام وانساه»، وعبد الوهاب «كل ده كان ليه لما شفت عنيه»، وفريد الأطرش وهو يهمس لماجدة قبل النوم لحنا ملائكيا «تصبح على خير يا حبيبي».
الشبان كانوا يقلدون شياكة عبد الحليم وبدله الـ «سلم» يعنى الضيقة، والوردة البيضة فى عروة عبد الوهاب وتسريحة شعر فريد الأطرش، وطلاب الجامعات نماذج للذوق المرتفع والنظافة والأناقة.
وفنانات مصر، نادية لطفى التى أحبها نصف جيلي، وماجدة بصوتها الخافت، ومريم فخر الدين الساحرة الناعسه، وهند رستم الفاتنة الشقية، دا غير فاتن حمامة وشمس البارودى وزبيدة ثروت وسعاد حسنى وسهير رمزي، وكل فنانة تشكل لوحة مختلفة الألوان عن الأخرى.
فى زمن عبد الحليم كانت الفتاة تحب زميلها فى الجامعة، ويتزوجان بعد التخرج، لا يضحك عليها ولا يناورها ولا يأخذها «لفَّة»، وكانا يؤسسان البيت واحدة واحدة، دون تسرع أو اندفاع.
كانت الأحلام بسيطة مثل بساطة الحياة، شقة بالإيجار ومواصلات آدمية رغم تهالكها، والرفاهية تليفزيون 14 بوصة أبيض وأسود، وثلاجة إيديال بالقسط 8 قدم وغسالة برميل تتلف الملابس، والوظائف مربوطة على الدرجة السابعة فى متاحف الموظفين.
كانت أم كلثوم هى الكوكب الدرى، وعلى يمينها الفذ محمد عبدالوهاب، وعلى يسارها الأسطورة رياض السنباطي، والإبداع يحفز الإبداع، وأنتجت المنظومة أسماء كثيرة، فى حدائق الفن المصري.
كانت الألسنة العربية تنساب باللهجة المصرية المحببة، بعد أن اقتحم الفن المصرى الوجدان، وتصدرت مصر قوافل الخلود والإبداع، بأسماء ونجوم لو كتبت أسماؤهم، لكان عددهم أكبر بكثير من الإمارة «عقلة الصباع» التى تتآمر علينا.
كان طبيعياً أن يكون الوجدان المصرى مستهدفاً، ومع سنوات الهجرة إلى الخليج فى السبعينيات بدأ التردى والانهيار، وهبت على الأجواء روائح الرمال والغبار والزيت.
>>>
من أشعاري:
يا عصفورى المتوضأ
فى دمعى وهمسى وسكونى وصلاتى
من بعد ماتت أغنيتي
وانتحرت آخر همساتى