المصريون قضوا على «العثمانية الجديدة».. و«الإخوان» كانوا يحجون لإسطنبول

حوار| آخر سفراء مصر في تركيا: ثورة ٣٠ يونيو أصابت أردوغان بالجنون

 السفير عبد الرحمن صلاح
السفير عبد الرحمن صلاح

- قيادات إخوانية حاولت تنظيم انقلاب فى الإمارات ودول الخليج.. وحكومة مرسى تدخلت لإطلاق سراحهم
- رموز ٢٥ يناير من كل التيارات تنافسوا للحصول على رضا الأتراك واستشاراتهم

 

عندما تجلس إلى السفير عبد الرحمن صلاح، تشعر أنك فى حضرة مؤرخ، ولست فى ضيافة دبلوماسى قدير، فهو يمتلك من دقة المعلومات والحرص على توثيقها، بالإضافة إلى القدرة على التحليل الموضوعى والعلمي، ما يجعلك ترى الصورة كاملة، وتلم بأطراف ما يرويه من مختلف جوانبه.

 

وقد شاء القدر بالفعل أن يكون السفير عبد الرحمن صلاح شاهدا على العديد من اللحظات التاريخية فى عمر مصر، منذ أن التحق بالسلك الدبلوماسى عام 1980، وعمل فى سفارة مصر فى واشنطن مرتين حيث اختص بالاتصال بالكونجرس الأمريكى، وصولا إلى معايشته لواحدة من أعقد صفحات العلاقات المصرية التركية قبل وبعد أحداث ما يسمى بالربيع العربي، فكان سفيرا لمصر فى تركيا تحت قيادة أربعة رؤساء «الرئيس الأسبق حسنى مبارك، المشير حسين طنطاوى رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، المعزول محمد مرسي، الرئيس المؤقت عدلى منصور»، وكان شاهدا فى تلك الفترة على رحلات «الحج» الإخوانية لـ«السلطان» أردوغان، والذى كان يطمع عبر سيطرته على مصر فى أن يستعيد مجد «العثمانية» الغابر، كما أصابه الجنون عقب إطاحة المصريين بواليه «الإخوانى» فى ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣.

 

في تلك الأجواء العاصفة، مارس السفير عبد الرحمن صلاح عمله، منحازا للمصالح المصرية العليا، ومدافعا بقوة عن إرادة شعبها، ويعد الآن بعد تقاعده من العمل الدبلوماسى أطروحة لنيل درجة الدكتوراة فى العلوم السياسية حول السياسة الخارجية المصرية إزاء تركيا وفلسطين خلال الربيع العربى من جامعة تشارلز فى براج بجمهورية التشيك.. وعلى مدى ثلاث ساعات حاورت "الأخبار" السفير عبد الرحمن صلاح، حول سنوات عمله فى تركيا سفيرا لمصر، وهى الرحلة الشائقة والشائكة التى حاول تسجيل بعض صفحاتها فى كتابه “كنت سفيرا لدى السلطان” الذى أصدره مطلع العام الجارى.. وإلى تفاصيل الحوار.


> العلاقات المصرية التركية كانت متميزة للغاية قبل ٢٠١١، لكن تغيرات كبيرة شابت تلك العلاقة بعد ما يسمى بالربيع العربى، وتحولت السياسة التركية تجاه مصر إلى سياسة أيديولوجية لخدمة «الإخوان».. لماذا هذا التحول؟


بالفعل حزب العدالة والتنمية التركى منذ توليه السلطة عام ٢٠٠٢ رفع شعار العلمانية والبراجماتية، وخلا برنامجهم السياسى من أى شعار ديني، واعتمد فقط على ما يخدم الناس وعلاقاتهم الدولية، ونالوا بذلك البرنامج الأغلبية المطلقة، وبالفعل امتنعوا عن اللجوء لأى مظهر دينى حتى لو كان السماح بارتداء الحجاب للنساء فى مؤسسات الدولة خوفا من اتهامهم بمخالفة مبادئ الدولة العلمانية، واستعان الحزب بكفاءات من خارج الإسلاميين.

 

لكن نقطة التحول جاءت داخليا بعد انتخابات ٢٠١١، وكانت تلك الانتخابات هى الثالثة على التوالى التى يفوز بها الحزب منفردا بالسلطة، وأصيبت المعارضة بالكثير من الخسائر والصراعات الداخلية، وخارجيا انفجرت ثورات الربيع العربي، وكان متصدرو المشهد فى تلك الثورات من مختلف التيارات وحتى غير الإسلامية ترى فى تركيا وحزب العدالة والتنمية المثل والقدوة، وكان يطلبون تنظيم رحلات إلى تركيا للاطلاع على تجربتها.. والمفاجأة التى تدعو إلى الدهشة أن كثيرا من قيادات جماعة «الإخوان» ممن كانوا يترددون بانتظام على تركيا كانوا يسرون لى أنهم لا يعتبرون أردوغان مثلهم الأعلى، بل كانوا يتحدثون بكل ثقة عن أنهم سيكونون المثل الذى يحاول أردوغان الاقتداء به!!


> وهل صحيح أن القيادة التركية فى ذلك الوقت نصحت «الإخوان» بعدم الاستئثار بالسلطة، وضرورة إشراك التيارات المدنية، ولم يستمع «الإخوان» للنصيحة؟


الحقيقة أن الذى قدم تلك النصيحة لجماعة «الإخوان» لم يكن أردوغان، وإنما كان الرئيس التركى عبد الله جول، وقد قدم الرجل تلك النصيحة مرارا وتكرارا وألّح عليها، فقد كان جول هو المؤسس الحقيقى لتجربة حزب العدالة والتنمية، لأن أردوغان فى فترة تأسيس الحزب كان مسجونا منذ عام ١٩٩٨ بتهمة الإساءة لعلمانية الدولة، وكان جول بالفعل يمثل صوت العقل فى الحزب وفى الدولة التركية، ويحظى باحترام كبير فى مصر فى كل الأزمات، وكان بابه مفتوحا لى تقديرا لمصر ودورها، لكن للأسف لم يستمعوا للنصيحة، وكان صوت أردوغان هو الأقوى فهو الصوت الأيديولوجي، الراغب فى استعادة الامبراطورية العثمانية، وكان الوضع الإقليمى والدولى بعد الربيع العربى مواتيا لتحقيق ذلك الحلم، فبعض قيادات الثورات العربية حتى من غير الإسلاميين يطالبون أردوغان بإعادة الباب العالي، والدول الغربية تتعامل معه باعتباره اللاعب الرئيسى فى مصر وسوريا وليبيا وتونس، لكل ذلك أعتقد أن أردوغان أصيب فى تلك الفترة بنوع من الاختلال النفسي، الذى جعله يشعر بأنه يقترب من حلمه ليصبح سلطانا، وكنا فى تلك الفترة نستقبل عشرات الوفود المصرية التى تتردد على أنقرة واسطنبول فيما يشبه بالفعل “الحج” للسلطان الجديد، ومن هنا جاء اختيارى لعنوان كتابى عن تلك الفترة “كنت سفيرا لدى السلطان”.

 

 والحقيقة أن التجربة التركية نفسها بدأت فى التحول فى تلك الفترة، فبدأ أردوغان يكشف عن وجهه الحقيقي، ويتحايل على القيم العلمانية للدولة التركية، ويبالغ فى إرضاء قاعدته من الأتراك الأناضوليين وهؤلاء من الإسلاميين، مستغلا تمكنه من مفاصل الدولة، وتنامى الاقتصاد وتحوله من دولة على حافة الإفلاس إلى الاقتصاد السابع عشر فى العالم، وكل ذلك بدعم وتمويل غربي، واستغل أحداث الربيع العربى ليزيد نفوذه فى أوروبا فأصبح هو من يدير الدول العربية، وأهمها وأكبرها بالطبع مصر، فصار هو المتحكم والمسيطر عليها فى زمن «الإخوان».


فترة حكم «الإخوان»
> وكيف عايشت فترة حكم «الإخوان» وعلاقتهم بتركيا خلال فترة عملك الدبلوماسي؟


هناك الكثير والكثير من التفاصيل فى هذا الشأن والتى رصدتها بشكل دقيق وموثق فى كتابي”كنت سفيرا لدى السلطان”، لكن المؤكد أن أعضاء الجماعة ووزراءها كانوا لا يتمتعون بالخبرة السياسية الكافية، كما كان بعضهم لا يبدى اهتماما كافيا بالأعراف الدبلوماسية، فعصام الحداد مستشار الرئيس مرسى وقتها مثلا أصر على الاجتماع مع الأتراك دون حضور أو حتى استقبال طاقم السفارة له، ولم يتردد عندما أبديت تعليقا حول الأمر فى القول “أننا جميعا فلول” فى إشارة إلى الجهاز الدبلوماسي، كما كان الأتراك يتعاملون دون التزام أيضا بالقواعد المرعية فى هذا الشأن خلال حكم «الإخوان»، فقد كانوا ينظرون إلى الجماعة على أنها تابع لهم، وهناك العديد من التفاصيل حول التجاوزات التى قام بها حرس أردوغان خلال زيارته لمصر، والتى وصلت حتى إلى الوزراء المصريين وكانت مثار استهجان ورفض منهم.

 

وحدثت بالفعل أزمة مع السفيرة فايزة أبو النجا داخل مقر مجلس الوزراء، ودخلت الوزيرة إلى مقر الاجتماع فى قمة غضبها تطلب من أردوغان اعتذارا مباشرا عن تجاوزات أفراد حراسته، بل وصل الأمر إلى حد أن هؤلاء الحرس حملوا رئيس الوزراء فى حكومة «الإخوان» هشام قنديل من ذراعيه ودفعاه خارج أحد حمامات قصر الرئاسة بالاتحادية لمنعه من دخول الحمام الذى كان يوجد به أردوغان، بل إن أردوغان فى ختام تلك الزيارة فى نوفمبر ٢٠١٢ طلب من حكومة «الإخوان» أن تخصص أرضا كبيرة على النيل لإقامة سفارة تليق بمكانة تركيا، لتكون على قدم مساواة مع السفارة والقنصلية المصرية فى أنقرة واسطنبول، واللتان تعدان من أجمل المبانى فى تركيا، مستشهدا بما فعلته الصومال عندما أهدت تركيا٢٠ فدانا لتقيم عليها سفارة، وكان وزير الشباب الإخوانى أسامة ياسين حاضرا، ولم يفهم مغزى الإهانة الأردوغانية، التى لا ترى فى مصر والصومال سوى ولايتين فى امبراطوريته العثمانية، وتوليت الرد بتوضيح أن مصر ليست كالصومال وأن مبانيها الدبلوماسية فى تركيا لم تكن منحة من أحد وإنما هى ممتلكات مصرية تاريخية، وأن الحكومة المصرية يسعدها أن تقدم كل التسهيلات لبناء مبنى جديد للسفارة التركية، عندما تشترى تركيا أرضا مناسبة.


والحقيقة أن علاقات «الإخوان» بتركيا تعود إلى ما قبل ٢٠١١، فعلى سبيل المثال كان بعض أعضاء مجلس الشعب المصرى على متن السفينة “مرمرة الزرقاء” التى حاولت الدخول إلى غزة عام ٢٠١٠، وتم القبض عليهم وكان من بينهم سعد الكتاتني، ورغم انتمائهم للإخوان وعدم حصولهم على تصريح بالمشاركة، إلا أن الرئاسة المصرية وقتها تدخلت للإفراج عنهم فورا، واستجابت إسرائيل.


> وكيف تغيرت المعاملة التركية معكم كسفير لمصر بعد ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣؟
بالتأكيد تغيرت المعاملة بشدة، فكانت هناك العديد من التظاهرات ضد مصر، ونالت السفارة نصيبا وافرا منها، وحتى المعاملة الرسمية اختلفت، فعلى سبيل المثال كانت الساحة تمتلئ بالبيانات السياسية الحادة ضد مصر، وكنا فى تلك الفترة فى شهر رمضان وكنا ندعى لحفلات إفطار كانت تلقى بها كلمات ضد مصر، إلى أن جاء إفطار حزب العدالة والتنمية الحاكم، وقد التقيت قبله بيومين بمستشار أردوغان للتعاون الدولي، وهو وزير الخارجية حاليا “مولود شاوش أوغلو”، وكنت متأكدا أن أردوغان سيستغل الحفل للهجوم على مصر، فحاولت قبله التوصل إلى اتفاق بأن تدير البلدان خلافاتهما بهدوء وبعيدا عن الصخب الإعلامي، لكن اللقاء مع شاوش أوغلو تحول إلى مواجهة عنيفة للغاية، فقد حاول الرجل الهجوم على مصر فقمت بالرد بكل قوة، وهذا مجرد مثال على تغير المعاملة من الود والاحترام الكبير فى العلاقات الثنائية إلى الصدام والمواجهة والتوتر.


تحول هائل
> أى متابع للسياسة التركية حاليا يندهش من ذلك التحول الهائل من دولة ترفع شعار العلمانية والدولة المدنية إلى دولة تساند تنظيمات إرهابية وتؤوى متطرفين، ومن دولة تعلن تبنيها لسياسة «صفر مشاكل» مع جيرانها، إلى طرف متورط فى كل صراعات المنطقة.. كيف نفهم ذلك التحول؟


الحقيقة أن ذك التحول بالفعل أمر مثير للدهشة، فالمعارضة التركية غالبا ما كانت تؤكد فى كل لقاءاتى معها أن سياسات أردوغان وشعاراته ليست سوى مرحلة من أجل التمكن، وأن حكمه سيتحول إلى حكم دينى وديكتاتورى مطلق، وبالفعل بدأ هذا التحول داخليا وخارجيا منذ ٢٠١١، فحتى على المستوى الداخلي، بدأ أردوغان فى التدخل بشكل سافر فى القضاء وفى تعيين قيادات الجيش، وفى عزل من يحاول الكشف عن مخططاته، فمثلا عزل قضاء ووكلاء نيابة وهم يحققون فى قضية تقديم مساعدات ودعم استخباراتى لتنظيمات إرهابية فى سوريا، والحقيقة أن هناك عدة دوافع وراء ذلك التحول، منها ما هو شخصي، حيث يسعى أردوغان للبقاء فى الحكم حتى عام ٢٠٢٣، وهو عام الاحتفال بمرور مائة عام على تأسيس الجمهورية التركية، وبالتالى يبدأ بعدها الجمهورية التركية الثانية وهو على رأس السلطة، وبالتالى هو يبالغ فى إرضاء قاعدته الكبيرة من الإسلاميين الأناضوليين، ومن أجل ذلك يستخدم ورقة دعم «الإخوان» فى مصر وفى تونس وفى أى مكان، بل والمبالغة فى تعقب قضية جمال خاشقجي، خاصة فى ظل تراجع شعبيته، وخروج العديد من التظاهرات ضد سياساته، وفى مقدمتها مظاهرات حديقة غازى، لذلك فإن الحفاظ على تأييد الإسلاميين هو ملاذه الأخير، أما فشل سياسة «صفر مشاكل» فجزء منه بالطبع تتحمله سياسات أردوغان، ولكن حتى نكون منصفين فإن جزءا آخر مرتبط بانفجار الأوضاع فى الشرق الأوسط بعد الثورات العربية، وأهمها على الإطلاق ما حدث فى مصر، وهو ما لم يستطع أردوغان نسيانه.


وهناك بعد آخر، ربما لا يتعلق بمصر وحدها، وإنما بتحولات السياسة التركية نفسها، فقد كان أردوغان قبل ٢٠١١ يستعين بالكفاءات، حتى تلك التى لا تنتمى لحزبه مثل على بابا جان وكمال درويش وغيرهما، لكن بعد ٢٠١١ تغير ذلك النهج وصار يستعين بأقاربه وأنصاره، كما استبعد الرعيل الأول من مؤسسى الحزب ومنهم عبد الله جول وهو ما انعكس على السياسة التركية تجاه مصر وتجاه المنطقة كلها، بل وعلى أداء الاقتصاد التركى الذى كان الإنجاز الأهم لإدارة أردوغان.


> هذه مسألة جديرة بالاهتمام، فجميع ثورات المنطقة لم تحظ بذلك الاهتمام التركي، مثلما حدث مع الأوضاع فى مصر، فلماذا ذلك التشنج الأردوغانى تجاه مصر، خاصة بعد ٣٠ يونيو ٢٠١٣؟
الإجابة ببساطة لأن مصر أفشلت مشروعه السلطانى العثمانى للهيمنة على المنطقة، فهو لا يستطيع نسيان أن التحول فى مصر حطم مشروعه الكبير، فمنذ ٢٠١٣ لم يكن التحول مقصورا على مصر، بل خسرت تركيا كثيرا من نفوذها فى ليبيا، ورغم كل التمويل القطرى والدعم التركى والأوروبى أحيانا للجماعات المسلحة هناك، لم يستطع استعادة السيطرة على ليبيا كما كان فى السابق، فى تونس أيضا لم تعد حركة النهضة حليفه الأساسى بتلك القوة التى كانت عليها، فى سوريا أيضا بدأ النظام يستعيد قوته وسيطرته الميدانية، وبدأت الأوضاع تتجه فى غير صالح الجماعات المدعومة تركيا.


والأهم والأخطر أن المخطط التركى للهيمنة كان سيمتد إلى دول الخليج، وثابت بالوثائق أنه كانت هناك محاولات لقلب نظام الحكم فى الإمارات، بمشاركة قيادات من جماعة «الإخوان» المصرية، وكان ذلك فى آخر شهرين من مهمتى فى تركيا، وقامت السلطات الإماراتية بضبط خلية إخوانية متحالفة مع “إخوان” إماراتيين، وقد سعت حكومة الإخوان فى مصر فى تلك الفترة للإفراج عن عناصر الجماعة المضبوطين فى الإمارات، لذلك فإن تأثير ثورة ٣٠ يونيو الأهم كان هو وقف التمدد الإخوانى والأردوغانى فى المنطقة والسيطرة على كل دولها.


العلاقات الاقتصادية
> هل ذلك يفسر استمرار العلاقات الاقتصادية وعمل الكثير من رجال الأعمال الأتراك فى مصر، رغم التوتر السياسي؟


هذا جانب مهم، فهناك أكثر من ٢٠٠ مؤسسة أعمال تركية لا تزال تعمل فى مصر باستثمارات كبيرة وناجحة، ويجب أن ندرك أن الأتراك لا ينظرون إلى مصر فقط ككتلة سياسية مهمة، ولكن أيضا يعتبرونها سوقا ضخمة ينبغى أن يتواجدوا فيها بقوة، لأنها مليئة بالفرص الواعدة اقتصاديا، فالمجتمع المصرى مجتمع شاب والأيدى العاملة والطاقة أرخص منها فى تركيا، كما أن مصر ترتبط باتفاقيات تجارة مع أوروبا وأفريقيا والولايات المتحدة تمنح منتجاتها تيسيرات لدخول تلك الأسواق، وبالتالى يحاول الأتراك الاستفادة من كل تلك الفرص لصالحهم، حتى رغم التوتر السياسي.


> ولكن تركيا فى المقابل تستضيف الكثير من المطلوبين جنائيا فى مصر، وتحولت أراضيها لمنصة تحريض ضد مصر.. كيف يؤثر ذلك على إمكانية عودة العلاقات؟
لا توجد اتفاقية تسليم مجرمين بين مصر وتركيا، ولكن يوجد اتفاق تعاون قضائي، نستخدمه دائما لإمدادنا بمعلومات ومساعدتنا بتنفيذ أحكام، كما نخطر السلطات التركية بالأحكام التى تصدر ضد من يؤونهم ليعلم أنه يؤوى مجرمين صادرة بحقهم أحكام نهائية،وهذا فى الشق القضائي، أما فى الشق السياسى وأنا هنا أتحدث من خلال وجهة نظر شخصية، وأرى انه لا بد - كما فعلنا مع الكثير من الدول الأوروبية- أن نقدم أدلة كافية وموثقة عن كل ما يقوم به هؤلاء من تحريض ضد الدولة المصرية ومحاولة إشعال الاضطرابات والعنف بها، إضافة إلى استخدام الضغوط الدولية المتاحة على تركيا التى تؤوى مجرمين هاربين، ويمكن لدول قريبة من الطرفين أن تقوم بجهد فى هذا الشأن، تماما كما فعلت مصر فى الوساطة ووقف اندلاع حرب بين تركيا وسوريا فى التسعينيات، فالتحريض على العنف لا يقل خطرا عن توريد الأسلحة لإشعال الصراعات داخل الدول، وهذا مجرم دوليا، وقد بدأت مصر تتحرك للتصدى لهذا النهج الذى يمول ويؤوى ويدعم المحرضين.


شعارات كاذبة
> وكيف نفهم أيضا التناقض فى مواقف أردوغان بشأن فلسطين، فبينما يردد دوما شعارات دعم الشعب الفلسطينى وخاصة فى غزة، نجد تعاونه مع إسرائيل على أشده اقتصاديا واقتصاديا، وحجم التبادل التجارى بين أنقرة وتل أبيب يتضاعف عدة مرات فى عهده؟


الحقيقة أن ذلك بالفعل وجه آخر من وجوه الازدواجية والتناقض التركي، ويجب أن ندرك أن خطاب أردوغان الحماسى تجاه فلسطين ودعم حقوق شعبها أكسبه شعبية طاغية فى المنطقة العربية، ومثلا الحركة المسرحية التى قام خلالها بانسحابه من جلسة منتدى ديفوس بحضور الرئيس الإسرائيلى وقتها شيمون بيريز، حازت إعجاب الشعوب العربية، رغم أنها حركة مسرحية بلا قيمة، فى وقت تتضاعف معاملات تركيا مع إسرائيل اقتصاديا، بل وعسكريا، فتجارة الأسلحة بين البلدين تضاعفت عدة مرات فى عهد أردوغان، بل إن علاقة أردوغان بإسرائيل أكسبته قوة لدى الدول الغربية، وصار هو أحيانا الوسيط بين إسرائيل وبين بعض الدول العربية ومنها سوريا على سبيل المثال، فقد أخبرنى أحمد داود أوغلو شخصيا أنه كاد أن يتوصل إلى صيغة اتفاق سلام دائم بين الإسرائيليين والسوريين عام ٢٠٠٩، وأن وصول نتانياهو إلى الحكم أجهض تلك المساعي، ورغم شكى فى صحة تلك الرواية، لكن ذلك يكشف حجم التعاون بين تركيا وإسرائيل.


> وهل تتوقع أن يستمر ذلك المشروع التركى الملىء بالتناقضات، رغم تحولات الظروف الإقليمية والدولية؟
الشيء الغريب حقا أن الإدارة التركية، ورغم ما كانت تتمتع به من براجماتية وقدرة على إدارة علاقاتها الإقليمية والدولية بفاعلية، باتت تصر على استمرار نهجها رغم التحولات العميقة فى الظروف الإقليمية والدولية، فما كان يسميه أردوغان مقاومة عراقية وسورية تحول إلى «داعش» وأدرك العالم الغربى الذى كان يدعم أردوغان خطر تلك التنظيمات التى تساندها وتدعمها تركيا، وبدأت الولايات المتحدة وأوروبا حربا على التنظيم انتهت بهزيمته، كما غيرت الولايات المتحدة من سياساتها الداعمة للتغيير بالقوة فى دول الشرق الأوسط، وبات هدفها الأهم ليس تغيير الأنظمة وإنما محاربة الإرهاب، وبالتالى فقدت تركيا ورقة مهمة كانت تستخدمها، والمشكلة أن أردوغان الذى يحيط نفسه بمجموعة من الأيديولوجيين الذين يوافقونه الرأى وبسبب تخليه عن الكفاءات السياسية، يصر على اتباع سياسات ربما تجره بالاصطدام مع المتغيرات الدولية فى المنطقة والعالم، وبقوى كبرى مثل روسيا صار لها نفوذ على الأرض.

 

وبالتالى هناك حقائق جديدة على الأرض يحتاج أردوغان إلى إدركها.. لكن فى الوقت ذاته لابد أن ندرك أن ذلك المشروع الأردوغانى يعتمد على تأييد ٥١٪ من الشعب التركى له من خلال انتخابات ديمقراطية، فضلا عن تحالفه مع حزب القوميين الأتراك، وهذا يمنحه استمرارا فى السلطة حتى٢٠٢٣ على الأقل، لكن هناك مؤشرات مهمة فى الفترة المقبلة ستكون دليلا على شعبية أردوغان ومنها الانتخابات المحلية.


مصر وأمريكا
> وإذا ابتعدنا قليلا عن تركيا، فإن لكم تجربة دبلوماسية حافلة فى العمل بالسفارة المصرية فى الولايات المتحدة، كيف تنظر اليوم إلى سياسات واشنطن تجاه المنطقة العربية، خاصة فى ظل الكثير من القرارات الصادمة من جانب إدارة ترامب؟


بالفعل أنا خدمت لمدة تقرب من ٢١ عاما فى أعمال دبلوماسية متعددة فى الولايات المتحدة، وأستطيع القول إن الولايات المتحدة اليوم تدرك أنها لم تعد القوة العالمية الوحيدة على الساحة، ولم تعد لهم نفس القوة التى امتلكوها منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، فالآن روسيا عادت لتمثل قطبا سياسيا وعسكريا مهما وفاعلا، والصين كذلك تبرز كقطب اقتصادى عالمي، وقوة إقليمية عسكرية ضخمة فى إقليمها، حتى أوروبا نفسها تغيرت، وتوسعت شرقا، بينما فقدت دول أوروبا الغربية التماسك بسبب الهجرة التى قسمت الصف الأوروبى بشدة، وتتصاعد مخاطر تلك الهجرات اجتماعيا.


> وكيف تنظر إلى التعامل مع الولايات المتحدة، خاصة فى ظل تعقيدات المشهد والقرارات المتصارعة والمرتبكة أحيانا فى صناعة السياسة الامريكية المعقدة ؟


علاقتنا بالولايات المتحدة ينبغى ألا تقتصر على الإدارة، رغم أهمية دور الإدارة فى صناعة السياسة الأمريكية، فهناك مؤسستان كبيرتان يجب أن نهتم بهما ونقيم معهما علاقات فعالة، وهما مؤسسة الكونجرس، ومؤسسة الإعلام ومركز الفكر والبحث، فالسياسة الأمريكية تتبع ما يسمى بسياسة “الأبواب الدوارة”، أى أن من يخرج من منصبه فى الإدارة يتجه إما إلى الكونجرس أو إلى مراكز الفكر والبحث، ثم يعود إلى الإدارة فى فترة لاحقة، ويجب ألا يكون الاهتمام مقصورا فقط على القيادات، ولكن ينبغى أن يكون هناك استثمار حقيقى فى بناء علاقات فعالة مع أعضاء وباحثى وموظفى اللجان ومساعدى النواب فى اللجان الرئيسية مثل العلاقات الخارجية والمالية والقوات المسلحة، ومن المهم دعوة هؤلاء لزيارة مصر وربطهم نفسيا بها من خلال تنظيم زيارات منتظمة لهم، ولقاء كبار المسئولين المصريين والاستماع لرؤيتهم، ويجب أن ندرب دبلوماسيينا على تنشيط تلك العلاقات، وأذكر هنا بالفضل للسفير عبد الرءوف الريدى الذى أسس لهذا النهج خلال عمله سفيرا بالولايات المتحدة، كما يجب على إعلامنا وأجهزتنا الإعلامية أن تلتزم بالصدق فى التعامل مع الولايات المتحدة.