الكاتب الأقرب لجيل التسعينيات

بول أوستر
بول أوستر

كمال الرياحى


يمثل بول أوستر علامة فارقة في الرواية الحديثة والمعاصرة. وهو مرحلة مهمة ما بعد جيل البيت والجيل الأمريكى الكبير همنجواى وفوكنر وشتاينباك الذين أخذ عنهم الكثير دون أن يقلّدهم لأنه غمس كل ذلك فى ثقافته الأخرى الأوروبية العريقة من ثريانتس إلى الحديثة مع الرواية الجديدة فى فرنسا مستندا من جهة ثالثة على إرث الرواية البوليسية وأدب التحرى ليخلق تجربته الخاصة؛ مغامرة في الكتابة أصيلة وإن شفّت كالطرس عن كتابات سابقة عالقة بها.

كانت ثقافته الموسوعية كشاعر ومترجم وكاتب سيناريو ومخرج وإذاعي، وأكاديمي… أحد الروافد الأساسية لهذه الأصالة متشعبة المراجع. هذا كله جعل من بول أوستر كاتبا استثنائيا لا يروى حكاية بل يصنعها ويجعل القارىء شريكا رئيسيا فى إنتاجها حيث تحتاج الكثير من روايات بول أوستر شيئا من الثقافة والمعرفة لحسن تلقيها واستيعاب رسائلها ومسك جمالياتها. 

كل هذا النبوغ الذى جعله نجما فى كل لغة يترجم إليها لا بد يكون له أثر فى تلك الثقافةً، والثقافة العربية واحدة من هذه الثقافات، وأعتقد أن تأثيره بدأ يظهر فى جيل أواخر التسعينات، ذلك الجيل الذى بدأ النشر سنة 1999 أو 2000، فذلك الجيل جيل هارب من أسئلة روايات الستينات السبعينات والثمانينات بتيماتها وأسئلتها وشكلها الذى غرق فى وقت من الأوقات فى الشكل، لكنه جيل مثقف وهضم أيضا كل أدبيات تلك الفترة وتربى عدد كبير منه فى مناهج النقد الغربية فى الجامعات، وقدم محاولا مراجعة ما انتهت إليه فترة الثمانينات باستعادة الحكاية وتوديع آلن روب غريى وناتالى ساروت والانطلاق فى كتابة رواية تجريبية لا تتنازل عن حكايتها.

أذكر أن صديقاً قاصاً مغربياً معروف أطلق على سنة 2007 إثر صدور روايتى «المشرط» لقب «بول اوستر العرب» ورغم أننى كنت فى تلك الفترة من شبابى أمتدح فكرة اللقاطة الأدبية وأننى لست متأثرا بأحد من الكتّاب التونسيين فقد أعجبنى ذلك اللقب الذى ظل الكاتب يردده لسنوات كلما ظهرت لى رواية جديدة. 

عندما أفكر اليوم فى ذلك الأمر وبعيدا عن العاطفة وأحاول أن أتساءل عن الأسباب التى دفعت الكاتب المغربى لإطلاق ذلك اللقب فى تعليقاته على منشوراتي، أو أثناء لقاءاتنا وعبر رسائله، أجدنى فعلا فى أعمالى وبطريقة لا واعية قد تبنّيت نهج بول أوستر أو حاولت، نجحت أم لم أنجح تلك قصة أخرى. لكن أجد نفسى قد آمنت مثله بفكرة المغامرة الأدبية على مستوى الشكل عبر التجريب والانطلاق من مصادفات واقعية ووقائع ومشترك بين الناس ثم انحرف به نحو التخييل، استعين فى كل رواياتى بالحبكة البوليسية أو أدب التحرى دون أن الزم نفسى بأهداف الرواية البوليسية أو لعبة الميتاسرد، لهذا أعتقد أن أثر بول اوستر قائم فى أعمالي.

لكن ما تفاجأت به هو عشقنا للرواية نفسها وهى رواية دون كيشوت لميجيل دى ثريانتس والتى نعتبرها نموذجا أبديا للرواية الحداثية. وأعتقد أن جيلى من الكتاب المصريين، والجيل الذى بعدنا، عاش هذا التأثر وكثيرا ما أقول إننا جيل أثر فيه بول أوستر أكثر ما أثر فينا نجيب محفوظ أو طه حسين أو يوسف ادريس… كان طوال الوقت قريبا منا وأشعر أنه كبر أيضا معنا وكبرنا معه فكانت أعماله تتقدم وتتعقد بنضجنا كل مرة ليفتح لنا آفاقا جديدة ونبقى نلاحقه. 

شخصيا أشعر أنه قريب جدا منى لذات التمركز الذى أعيشه حول الذات من خلال الكتابة عن الذات عبر اليوميات والمذكرات وهذا ما فعله بول أوستر أيضا، واهتمامى منذ شبابى الأول بعالم الصورة والسينما وأدب الجريمة، بل سأذهب إلى أكثر من ذلك لقد أثر فى بعض الأصوات فى جيلى حتى فى لباسه فظهر جيل أنيق يقتدى ببول أوستر يقطع مع الصورة البائسة التى انتشرت للكتاب فى وقت من الأوقات أو البوهيمية. فكانت صور بول أوستر وأناقته وعلاقته بأسرته زوجته وابنته جزء من تكويننا النفسى والذوقى والعاطفي. إن نجومية بول أوستر جعلت صوره جنبا إلى جنب على جدار بيتنا مع جيمس دين أيقونة السينما وأيقونة الرواية. 

وأعتقد أن أثر بول أوستر ليس على الرواية العربية فقط بل أثر فى الرواية الأوربية والفرسية تحديدا والتحول الذى شهدته السنوات الأخيرة خاصة فى مستوى الإيقاع لبول أوستر نصيب فيه. إن أثر بول أوستر فى كتاباتنا لا تعمى أبدا. إننا وصلنا بروايتنا إلى ذلك المستوى لأن فن الرواية فى الغرب صناعة متكاملة وعمل جماعى بين المبدع والمحرر وتفرّغ كامل من الكاتب لعمله، وطقوس بول أوستر مع الكتابة معروفة حيث يقضى يومه كله فى الكتابة والمساء يحول ما كتبه بقلم الرصاص إلى الآلة الكاتبة. يبقى أن نتذكر أيضا جرأة بول أوستر فى طرح مواضيع حارقة وخطرة كانتشار السلاح وتاريخ أمريكا الدموى أو بؤس سياستها الخارجية التى جعلت الشعب الأمريكى يدفع الثمن كل مرة كما كتب فى روايته «رجل فى الظلام».

ما لا يُنسى لبول أوستر هو تقديره للقص باعتباره حاجة أساسية كما يقول مثل الماء والهواء والطعام والنوم متقاطعا مع نظرة الفيلسوف الفرنسى بول ريكور الذى لا يرى الوجود ممكنا ولا إثباته ممكنا دون سرد. 

إن بول أوستر أعاد للكاتب صفاته الكاملة التى يتمناها القراء فى كتابهم: الثقافة الموسوعية والذكاء والأناقة والتنوع وحب العائلة والوفى لأصدقائه. لا أدرى إن كان الأدب سيأتى بكاتب مثله مستقبلا. لقد خسرنا جميعا بول أوستر ولم تخسره الرواية الأمريكية.