يوميات الأخبار

الثقافة جهاز مناعة الوطن

رفعت رشاد
رفعت رشاد

الثقافة .. فى كل الأحوال هى صفة راقية يتمنى كل شخص أن يتصف بها وأن يحملها رغم أى شهادات تعليمية يقتنيها

تحير الناس فى معنى ومفهوم الثقافة والمثقف، وإن كان غالبية الأشخاص يحبون أن يوصفوا بهذا الوصف «مثقف»، ولم يصل إلينا حتى الآن تعريف دقيق للمثقف، وهل هو القارئ الموسوعى أو المتخصص، هل هو العالم بفرع من فروع المعرفة، هل هناك شهادة تعطى للمثقف ومن الذى يعطيها، وهل ترتبط صفة المثقف بحجم المؤهلات العلمية التى يحملها الشخص؟. 

قيل إن ابن خلدون أول من استخدم كلمتى ثقافة ومثقف مترجمة من اللغات الأوروبية وبعد زمن طويل عاد لإحيائها سلامة موسى وترددت على الألسن وفى مقالات الصحف فى الشام ومصر ونزل طه حسين بمطرقة كبيرة عن الثقافة مازال دوى ضربتها يصلنا حتى الآن، هى كتابه الذى أصدره عام 1938 «مستقبل الثقافة فى مصر». 

ما الثقافة ؟ فى كل الأحوال هى صفة راقية يتمنى كل شخص أن يتصف بها وأن يحملها رغم أى شهادات تعليمية يقتنيها. لكن دعونا نحاول تقريب معنى الثقافة. الثقافة مرادف للحضارة بكل جوانبها فهى عملية شاملة للتقدم الفكرى والروحى والمادى، تستقطر إنسانيتنا المشتركة وتنقيها من نفوسنا السياسية والطائفية وتخلص الروح منها وتستخلص الاتحاد من الفرقة والوحدة من التنوع. هى فكرة محايدة ترفض التشيع والانحياز للتوجهات السياسية والتعصبات القبلية. 

الثقافة لا تقتصر فى كينونتها على الكتب والفنون فحسب، الثقافة هى الملابس، الأعياد، قواعد الإيتيكيت، العقائد الدينية، الأفكار الشخصية، أساليب الفكاهة والمزاح، أسلوب تسريحة الشعر، عادات تناول الطعام والشراب، وغير ذلك من المظاهر وصولا إلى طريقة تبادل الكلام والزيارات. هى مركب وجمع القيم والأعراف والمعتقدات والممارسات التى تؤلف حياة جماعة بعينها، وفقدانها يعنى فقدان ثوابت الأمة. الثقافة مسئولة عن أشكال الشخصية فى أى مجتمع، وباختلاف الثقافات تختلف أشكال الشخصية، والشخصية يقصد بها مجموع السمات الأكثر تكرارا بين أفراد المجتمع الواحد. الثقافة مكتسبة، والإنسان صانعها وهو ما يعنى أهمية أثر الشخصية فى الثقافة، والإنسان ينفرد عن جميع الكائنات بقدرته على صنع الثقافة والحفاظ عليها، وكل مجتمع بشرى له ثقافة خاصة به تميزه عن باقى المجتمعات. 

مستقبل الثقافة

يتساءل طه حسين فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر»: «هل هناك ثقافة مصرية ؟ ويجيب: إنها موجودة بخصالها وأوصافها التى تنفرد بها عن غيرها من الثقافات، وأولى هذه الصفات أنها تقوم على وحدتنا الوطنية، وتتصل اتصالا قويا عميقا بنفوسنا المصرية الحديثة، كما تتصل اتصالا قويا عميقا بنفوسنا المصرية القديمة أيضا، تتصل بوجودنا المصرى فى حاضره وماضيه، فليست الثقافة وطنية خالصة ولا إنسانية خالصة، ولكنها وطنية وإنسانية معا».
مرتكزات الثقافة

وجود الثقافة لا يستقيم إلا باثنين: أحدهما، سياسات ثقافية إجرائية تقوم بها المؤسسات الحكومية وغير الحكومية بتنظيم وإدارة الثقافة بما يوفر جسور التواصل بين الفنون والآداب وحياة الناس ويمكن الجامعات والمؤسسات والشركات والأحزاب من تقديم الدعم لحركة الثقافة والترويج لها وتعزيزها وتعليمها للناس وتقييمها من خلال دوافع قانونية وسياسية لغرس قيم المواطنة لدى أفراد الشعب. ترتكز السياسات الثقافية للدولة على مفهومها المحدد لهذا الأمر وكذلك على مؤشرات الأمم المتحدة فى مجال الثقافة وقد أخذت بها الدولة وهى أربعة جوانب: الحق فى الثقافة، التنوع الثقافى، دور الدولة فى الثقافة والاهتمام بتطوير الصناعات الثقافية. 

وأحدها الآخر، الشخص المثقف الذى يقوم بدور يجمع بين التلقائية والإدراك فى نفس الوقت، فيمارس حياته الطبيعية ويفرز نواتج جمالية فى المجتمع بحكم تكوينه الثقافى، وفى نفس الوقت  يحرص على أن يراكم لدى الأشخاص ما فهمه وتعلمه فى حياته فيقوم بدور المثقف الطليعى الذى يساهم فى قيادة ودفع المجتمع إلى مكانة راقية. والجمع بين ما تقوم به أجهزة الدولة من سياسات ثقافية وبين ما يقوم به المثقف سواء كان ذلك بتكليف أو تطوعا وتلقائية يساهم فى تشكيل المجتمع وترقية سلوك الناس، فبغير ثقافة، يكون السلوك نوعا من التصرف بغير بصيرة يتحرك الإنسان خلاله بدوافع حسية غير ناضجة، فإذا لم تتحول الثقافة إلى سلوك، لا تكون بلغت مرحلة النضج، فالإنسان المثقف هو الذى يعايش ثقافته فى حياته اليومية وتصبح المعرفة عنده سلوكا، ونلاحظ أنه كلما كانت الدولة أكثر تحضرا زادت فيها نسبة من يستعملون عقولهم بمرونة وتجدد. 

المثقف هو النحات أو المثال المصرى القديم الذى سجل تاريخ أمته على مر القرون على جدران المعابد وروى فى أوراق البردى تفاصيل الحياة اليومية للمصرى القديم، هو الرسام الذى استخدم ريشته ليصف ما مر بمجتمعه وكيف عاش الناس فيه، هو الذى زعق بالناس أن هبوا وانهضوا لكى تبنوا حضارة وطنكم، هو ضمير الأمة وصوت الحق فى أوقات الشدة. 

مناعة الوطن

الثقافة تعبر عن هوية الأمة التى تجمعها وحدة اللغة والتاريخ والمشاركة الاجتماعية، وحريتها أوجب ما تكون للأمة فى الفترات المفصلية فى تاريخها حين تواجه ضرورة التغيير وإعادة البناء، فالحرية أول ملامح الثقافة وأكثرها قيمة، والهدف من ترسيخها إيجاد حالة وجدانية وذهنية عند المواطن تمنحه الإدراك الواعى فى حالة القبول والرفض، فى الرضى والسخط أمام ما يجرى حوله من أحداث ومواقف. كما أن الثقافة استثمار طويل الأجل وأداة أساسية فى البناء المعنوى للأفراد، فالإنسان المثقف أقدر على العطاء وعلى الإسهام فى المجالات الإنتاجية والاقتصادية والاجتماعية.

فى زمننا لا بديل عن الثقافة كقوة ناعمة يصد بها الوطن أعاصير الخطر المحيط بنا من خلال إعلام وثقافة عولمية تهدف إلى اختراق العقول والقلوب وهدم الأوطان بضغطة زر. الثقافة الحصن الحصين والجدار المتين لحماية مواطنينا من فيروسات التكنولوجيا وحروب الأجيال الجديدة. الثقافة مثل الكائنات الحية، تولد وتضعف وتموت، لذلك فإن تأخر مكانتها فى خطط الدولة وموازناتها يؤدى إلى ضياع وفقدان ثوابت الأمة، وإذا تراجع النشر والإعلام عن الثقافة وتقلصت مساحة تقديمها إلى الجمهور، ستكون النتيجة إهدارا لتراث الوطن الذى تراكم على مدى آلاف السنين.

إن الثقافة الحصن المنيع فى مواجهة أى عدوان أو محاولات لطمس هوية الأمة أو القضاء على ميراثها الحضارى. كما أن بناء الشعب لا يكون من فراغ، فعندما تتدنى الثقافة.. تتدنى الأخلاق وينفرط السلوك العام إلى أدنى مستوى. وهى ليست ترفا أو لهوا، إنها قلعتنا المنيعة فى مواجهة اختراقات العولمة التى تخترق ثقافات الشعوب وتسيطر عليها وتحولها إلى تابعة للدول الكبرى من خلال ثقافة براقة مزركشة بألوان زاهية ينجذب إليها المنجذبون بفعل الفقر والضغوط الاقتصادية ونقص الوعى. 
إن الثقافة جهاز مناعة الوطن وما ينفق على الثقافة يؤتى ثماره أضعافا مضاعفة لصالح الأمة والوطن والدولة.   

محمد القصبى

فقدنا فى شهر رمضان الماضى زميلا من الزمن الجميل هو الكاتب الصحفى والأديب محمد القصبى الذى عمل مديرا للتحرير بجريدة الأخبار المسائى بمؤسسة أخبار اليوم. كانت رحلة القصبى فى عالم الصحافة طويلة مليئة بالمكاسب وأحيانا الخسائر.

نشأ فى أحضان ثورة يوليو 1952 وفى عمر الصبا طغى حماسه على خبرته السياسية فتولى مسئولية «وحدة مجمعة» بقريتهم بالدقهلية. تسلم مدرسة وتعهد بالحفاظ عليها لكى يؤهلها لدور الوحدة المجمعة التى كان إحدى سمات التنظيم السياسى فى ذلك الوقت «الاتحاد الاشتراكى» والغرض منها تدريب وتثقيف الشباب والطلائع لكى يعرفوا معنى الاشتراكية نصا وروحا. قام القصبى بدور كبير لجذب الكوادر المؤهلة لتدريب الشباب ولفت الإنتباه لقدراته وحماسه. 

رأى القصبى أن السياسة والصحافة صنوان ولا فرق بينهما، فالسياسى دوره الأول خدمة الناس وكذلك الصحافة التى تعد رسالة لمن يؤمن بها وبدورها فى المجتمع. التحق القصبى بكلية الإعلام بجامعة القاهرة وكان من خريجى الدفعة الأولى بالكلية اللامعة، والتحق للعمل بعدد من الصحف كهاوٍ ولكنه استقر فى مؤسسة دار التعاون العريقة، وسافر بعد ذلك لرحلة عمل طويلة إلى سلطنة عمان الشقيقة ليبنى هناك تاريخا صحفيا ويؤسس لعلاقات وطيدة مع رموز البلد وزملائه الصحفيين والإعلاميين من كل الجهات. 

كان القصبى يحمل حماسا لا يفتر فى كل الاتجاهات، فبعد عودته من عمان خصص جزءا كبيرا من وقته وجهده للمشاركة فى إدارة نادى القصة واختاره زملاؤه سكرتيرا عاما للنادى ورئيسا لتحرير المجلة التى يصدرها النادى والتى تعمل على تنشيط وإعلاء دور القصة ومكانتها مرة أخرى فى مواجهة ظروف قاسية تعرض فيها النادى لمغادرة مقره الذى تأسس فيه واستغرق القصبى وزملاؤه فى عملية بحث عن مقر بديل لم يكن على نفس مستوى وقيمة المقر الأساسى الذى أسس فيه الأديب يوسف السباعى النادى. 

كان القصبى يذكرنا بشخصيات الماضى الجميل، وبمجرد أن يطل علينا كنا نعتقد أننا انتقلنا إلى زمن  يغلب عليه سمات القيم التى نفتقدها وسمات الثقافة التى نحتاجها وكانت مناقشاته مثيرة للجدل وما بين مؤيد ومعارض لها كنا نستفيد جميعا مما دار وننتظر اللقاء التالى، وأخيرا لم يكن هناك لقاء تالٍ، فقد ذهب القصبى ولن يعود وهو ما كان يردده ويخشاه، ويتساءل: كيف لإنسان بهيئته أن يكون بيننا يحدثنا ونبادله الكلام ثم يختفى ولا يعود ولا يراه أحد مرة أخرى؟ .