«جارة القمر» تصلى بصوتها الملائكى لشوارع فلسطين العتيقة

لقطة نادرة لفيروز فى ساحة المسجد الأقصى
لقطة نادرة لفيروز فى ساحة المسجد الأقصى

فلسطين الحبيبة فى قلوبنا جميعا، عربية وستظل عربية، ولد على أرضها المسيح عليه السلام وتعذب على يد الرومان واليهود، وأسرى إليها بخاتم المرسلين النبى محمد «»، تحتضن مقدساتنا الإسلامية والقبطية التى يتم الاعتداء عليها من الصهاينة النازيين، غنى لها محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ ووديع الصافى ومطربون ومطربات كثر، لكن تبقى «فيروز» سفيرتنا إلى النجوم من أكثر من صلوا لها بصوتها الملائكى، شدوها كان صلاة للقدس والمقدسيين وعموم الفلسطينيين، صلاة لأوجاعهم وشوارعهم العتيقة، لتبقى صلاتها ويدوم شدوها منذ النكبة الكبرى مرورا بكل مآسى النكبات التى لا تتوقف على يد الصهيونية النازية الاستعمارية التى تسرق الوطن بلدة وراء أخرى. 


وها هى حرب «طوفان الأقصى» التى اندلعت بغير توقع فى 7 أكتوبر 2023 تستدعى صلوات فيروز الموسيقية الساكنة فى الوجدان. 
فيروز نطقت بلسان كل فلسطينى تداعبه أحلام العودة لوطن سرق منه بكلمات موجعة لمن يكابد معانيها فى المقطع الذى تقول فيه: «حلّ الليل على الفلوات فأين ننام.. لا مأوى لا مثوى هل نرقد فى الساحات.. لا بيتٌ لا صوتٌ وسُدىً تمضى الساعات.. ذقنا الهَوْل وطفنا الليل بدون طعام.. إنْ البرد قَسَا واشتدّ فأين ننام.. وبيتنا الحبيب يسكنه غريب.. ونحن لاجئون فى الخيام.. هل ننام ؟ لن ننام». 


بدأ ارتباط فيروز والرحبانية بقضية فلسطين عام 1955عندما جاءت للقاهرة بصحبة الرحبانية للقاء الإعلامى أحمد سعيد مدير إذاعة صوت العرب، للاتفاق معه على تقديم مجموعة أغنيات لدعم القضية الفلسطينية، وتم تسجيل رائعة «راجعون» التى كتب كلماتها الشاعر الفلسطينى هارون هاشم رشيد الملقب بشاعر العودة والمخيّم، وأصبحت فيما بعد افتتاحية إذاعة فلسطين عند تأسيسها بالقاهرة، وأعادت فيروز إصدارها عام 1957 فى ألبوم «راجعون» الذى تضمّن 9 أغنيات، من بينها أغنية «جسر العودة» أو «جسر الأحزان» وأروع ما فيها المقطع الأخيرالذى تقول فيه فيروز : 
- «سلامى لكم يا أهلَ الأرض المُحتلّة يا مُنزرعين بمنازلِكم.. قلبى معكم وسلامى لكم والمجدُ لأطفال آتين.. الليلةَ قد بلغوا العشرين لهمُ الشمسُ لهمُ القدسُ.. والنصرُ وساحاتُ فلسطين». 


وعادت فيروز لتواصل ارتباطها بفلسطين بصوتها ومشاعرها وكل كيانها عام 1971 عندما أصدرت ألبوم «القدس فى البال» الذى تضمن 7 روائع لا تنسى ومازالت تهز مشاعرنا كلما استمعنا إليها، ومنها «غاب نهارٌ آخر»، و«زهرة المدائن»، و«بيسان»، و«سنرجع يوماً»، و«سيفٌ فليُشهر» التى كتبها الشاعر اللبنانى سعيد عقل، وتقول كلماتها: «أنا لا أنساكِ فلسطينُ.. ويشدّ يشدّ بىَ البعدُ.. أنا فى أفيائك نسرينُ.. أنا زهر الشوك أنا الوردُ»، وتجدد الأغنية فى نفوس الفلسطينين حلم العودة بإشهار السيف فى وجه العدو.


أما أنشودة «القدس العتيقة» فلها قصة تكشف عن الارتباط الثانى لفيروز مع فلسطين عندما سافرت لمدينة القدس فى ستينيات القرن الماضى للمشاركة فى احتفالية ترانيم خاصة أقيمت بمناسبة زيارة البابا بولس السادس للمدينة المقدسة التى تجولت فى أزقتها وشوارعها القديمة، وزارت معالمها، والتقط لها الصورة الشهيرة من أعلى فندق «الهوسبيس» ويظهر من خلفها المسجد الأقصى، وأثناء تجولها فى أزقة القدس العتيقة تجمع حولها المقدسيون مرحبين بها وشاكرين لها مساندة قضيتهم بصوتها المؤثر عربيا ودوليا، وظلت صورة السيدة الفلسطينية التى تقدمت منها وقدمت لها «مزهرية» عالقة بذهنها، خاصة وأن المشهد أوحى للرحبانية برائعة «القدس العتيقة» التى تقول كلماتها: 


«مرّيت بالشوارع.. شوارع القدس العتيقة.. قدام الدكاكين اللى بقيت من فلسطين.. حكينا سوى الخبرية وعطيونى مزهرية.. قالوا لى هيدى هدية من الناس الناطرين.. ومشيت بالشوارع.. شوارع القدس العتيقة.. اوقف عَ باب بواب صارت وصرنا صحاب.. وعينيهن الحزينة من طاقة المدينة.. تاخدنى وتودينى بغربة العذاب.. كان فى أرض وكان ف ايدين عم بتعمر.. تحت الشمس وتحت الريح.. وصار فى بيوت وصار فى شبابيك عم بتزهر.. صار فى ولاد وبإيديهم فى كتاب.. وبليل كله ليل سال الحقد على البيوت.. والإيدين السودا خلعت البواب، وصارت البيوت بلا صحاب.. بينهم وبين بيوتهم فاصل الشوك والنار والإيدين السودا.. عم صراخ بالشوارع.. شوارع القدس العتيقة.. خلى الغنيى تصير عواصف وهدير.. يا صوتى ضلك طاير زوبع بها الضماير.. خبرهن عَ اللى صاير بلكى بيوعى الضمير». 


ولم تنسَ فيروز أن تغنى لقرية بيسان الفلسطينية التى خربها العدو قبل النكبة الكبرى، فنطقت فيروز بلسان من خرجوا من القرية عندما قالت: «خذونى إلى بيسان.. خذونى إلى الظهيرات.. إلى غفوة عند بابى.. خذونى مع الحساسين إلى الظلال التى تبكى»، وعندما استمع إليها الشاعر الفلسطينى الكبير محمود درويش قال: «فيروز هى الأغنية التى تنسى دائماً أن تكبر، هى التى تجعل الصحراء أصغر وتجعل القمر أكبر». 
ظلت فيروز على تقاطع مشترك مع أحلام كل من تركوا فلسطين قسرا فقدّمت لهم رائعة «سنرجع يوماً» التى كتبها الشاعر هارون هاشم الرشيد، وقالت فيها: «سنرجع يوماً إلى حيّنا ونغرق فى دافئات المنى.. سنرجع مهما يمرّ الزمان وتنأى المسافات ما بيننا»، فيروز كانت تصلى وتشدو بيقين حول حلم العودة فى «راجعون» و«جسر العودة»، ومازال صوتها يصدح فى النفوس بنغمات التحدى واليقين وهى تقول: «سنرجع خبّرنى العندليب غداة التقينا على منحنى.. بأنّ البلابل لمّا تزل هناك تعيش بأشعارنا»، ولفيروز روائع أخرى شدت بها عن فلسطين فى حفلات حيه ومنها «فى أرض الجنّات»، و«سافرت القضية»، و«يا ليل بلادى». 


من منا لا تنتفض أحاسيسه ومشاعره عندما يستمع لفيروز وهى تحفزنا على الصمود والصلابة والغضب فى رائعة «زهرة المدائن» التى تقول فيها: 
- «لأجلك يا مدينة الصلاة أصلّى.. لأجلك يا بهيّة المساكن.. يا زهرة المدائن.. يا قدس يا مدينة الصلاة أصلّى.. عيوننا إليك ترحل كل يوم.. تدور فى أروقة المعابد.. تعانق الكنائس القديمة.. وتمسح الحزن عن المساجد.. يا ليلة الإسراء.. يا درب من مرّوا إلى السماء.. عيوننا إليك ترحل كلّ يوم وإنّنى أصلّى.. الطفل فى المغارة وأمّه مريم وجهان يبكيان.. لأجل من تشرّدوا.. لأجل أطفال بلا منازل.. لأجل من دافع واستشهد فى المداخل.. واستشهد السلام فى وطن السلام.. وسقط العدل على المداخل.. حين هوت مدينة القدس تراجع الحبّ.. وفى قلوب الدنيا استوطنت الحرب». 
وبصوت ترتج له مشاعر الغضب والتحدى تصرخ فيروز: «الغضب الساطع آتٍ وأنا كلى إيمان.. الغضب الساطع آتٍ سأمرُّ على الأحزان.. من كل طريق آتٍ.. بجياد الرهبة آتٍ.. وكوجه الله الغامر آتٍ.. لن يقفل باب مدينتنا فأنا ذاهبة لأصلّى.. سأدقّ على الأبواب وسأفتحها الأبواب.. وستغسل يا نهر الأردن وجهى بمياه قدسية.. وستمحو يا نهر الأردن آثار القدم الهمجية.. وسيهزم وجه القوّة.. البيت لنا والقدس لنا.. وبأيدينا سنعيد بهاء القدس.. بأيدينا للقدس سلام.. للقدس سلام آت».


رغم ما فى هذه الكلمات من وجع تغنت به فيروز منذ أكثر من 50 عاما، إلا أنها تحمل بشرة خير للقدس السليبة التى ستتحرر يوما، واليوم قريب آتٍ.