يخطأ من يظن أن السلفية دخلت مصر خلسة من خلف ظهورنا، ولكنهم – للأسف – تسربوا كالنمل من بين عيوننا في رحلة مضادة في دنيا «اللاعقل»؛ تاريخيًا دخلت السلفية مصر مطلع القرن العشرين؛ من خلال الحركة الوهابية التي نشأت في الجزيرة العربية وبلاد الشام، متمثلة في جماعة أنصار السنة وهم يعتمدون في أفكارهم على إحياء تعاليم الغزالي، وابن تيمية، وابن قيم الجوزية، والمودودي، وهم مع أفكارهم الصادمة التي لا تقبل اختلافًا في الرأي؛ يريدوننا أن نقتدي بهم وبأسلافهم ونرسف في قيود الماضي، أن يتراجع سلطان العقل والضمير، فقط الماضي ولا غيره يقطع الطريق على المستقبل، رغم أن الدين هو احتفال بالحياة لا موت وانتحار.
فالعقل عند هؤلاء «المتسلفة» لا يغدو أكثر من مجرد توليد الأفكار البائدة بعضها من بعض؛ أما أن تقول لهم إن من أحكام العقل أن نفكر ونتدبر حسب تطور الزمن ومن خلال مشاهداتنا وتجاربنا، عندئذ لا يترددون في اتهامنا أننا استخدمنا كلمة العقل فيما لا يجوز استخدامها فيه؛ ليس عقلًا عندهم – مثلًا – أن نأكل على «السفرة» أو المائدة وإنما يجب أن نتأسى بالرسول الكريم بوضع الطعام على الأرض، وأن نجلس مثلما جلس رسول الله، جثا للأكل على ركبتيه، وجلس على ظهر قدميه، وربما نصب قدمه اليمنى وجلس على اليسرى، وأن يبدأ طعامه بـ «باسم الله»؛ وإن قالها مع كل لقمة يكون أحسن حتى لا ينشغل عن ذكر الله بالشره، وأن يلعق أصابعه بعد أن يتناول طعامه، فأنه لا يدري في أي طعامه تسكن البركة ثم يغسلها بعد ذلك أو يمسحها بمنديل.
وهي نفس العقلية الأصولية التي تعتبر المرآة مثل جملة اعتراضية خلقها الله لتكون حبيسة بيتها لا تغادره إلا إلى قبرها، أما في عقلهم الباطن فهي مخلوق حقير لا تصلح لشيء إلا للجنس فقط، صوتها وشكلها وخروجها من بيتها ليس عورة فقط، وإنما زنى أيضًا، وكأن عبارة «رفقًا بالقوارير» بمنطقهم الرجعي الظلامي تعني أنها كائن ضعيف تحتاح إلى الوصاية عليها، رغم أن الرسول الكريم قصد بها معاملتها برفق وحنان واحترام؛ فقد أجازوا في فتاواهم مثلاً أن كذب الزوجة علي زوجها من أجل السياسة هو كذب أبيض مباح، وأن زواج البنت في سن العاشرة حماية لها من الانحراف، واعتبرت نزول المرأة البحر في حكم التي تزني، ووصلت فتاواهم المريضة والشاذة إلى المطالبة بإصدار قانون يبيح للمرأة المطلقة شراء عبد ولا يدفع لها مهرًا ليتزوجها ويعصمها من الانحراف، هكذا تكون المرأة في حياتهم إذا تركوها مثل البهيمة السائبة ملأت الدنيا شرورًا وغواية!
ذات يوم وقف المتطرف الأصولي أحمد الفقي المهدي وهو من جمهورية مالي، بصفته رئيس «الحسبة»، التي تشرف على تطبيق الشريعة بدولته، معترفًا بذنبه، مقرًا بجريمته بعد الاتهامات التي وجهتها إليه المحكمة الجنائية الدولية، في سابقة هي الأولي من نوعها؛ بأنه شارك في تدمير أضرحة مدرجة علي لائحة التراث العالمي للإنسانية في مدينة تمبكتو بمالي، تلك المدينة التي أطلق عليها «مدينة الـ 333 وليًا» حيث يتبرك بهم سكان المدينة في حياتهم من الزواج إلى صلوات الاستسقاء في أوقات الجفاف أو لمكافحة الفاقة وبعيدًا عن سيطرة الخرافة والأساطير القديمة علي بعض الشعوب، هي في النهاية خصوصية وحق من حقوق الإنسان في أن يعتقد ما يشاء وفق قناعاته الشخصية رغم أنها تفسير غير ملائم في عصر العلم وربط الخرافة بالدين، واستخدام البعض مثلًا – لآيات السحر والجن في القرآن ودفاع الدجالين باستماته عن هذه الخزعبلات الخرافية، طالب المتهم أثناء محاكمته من بلاده وشعبه الصفح عنه على خلفية تلك الاتهامات التي تنزع عنه الأخلاق وتشعره بالهزيمة الإنسانية وموت الضمير.
قال أحمد الفقي بعد تلاوة محضر الاتهام: «يؤسفني القول بأن كل ما سمعته حتي الآن صحيح ويعكس الأحداث، وأقر بأنني مذنب»، مضيفًا موجهًا كلامه لشعبه: «أطلب منهم أن يعتبروني ابنًا ضل طريقه»، ومثلما سيطر الفكر المتخلف علي المتطرف المالي أحمد الفقي، رغم ادراكه أخيرًا ببشاعة ما ارتكبه ليس في حق بلاده وشعبه فقط ولكن في حق الإنسانية جمعاء، أيضا لم نكن بمنأى عن هذه العقليات المريضة؛ فذات يوم إبان حكم العصابة الإخوانية طلع علينا أثنان من المتسلفة، الأول أفتى بتغطية وجوه التماثيل الفرعونية بالشمع لأنها من الأصنام، والثاني فجرت تصريحاته الشاذة عام 2012 حالة من الغضب بين المصريين، حين طالب هذا السلفي: «بضرورة تحطيم تمثال «ابوالهول» و»الأهرامات» مثلما حدث مع تمثال بوذا بأفغانستان، ولم يكتفِ بذلك وإنما اتهم العاملين بالسياحة بأنهم يحرضون على الفسق والدعارة وعليهم أن ينتصروا لدينهم بدلًا من إغضاب الله عز وجل».
ومن مهازل الاستخفاف بعقولنا ما أفتى به واحد منهم بجواز رؤية الخطيب لخطيبته أثناء استحمامها حتى يتأكد من صلاحيتها للزواج، ووصل بهم الشذوذ الفكري إلى حد الفتوى، بجواز «مفاخذة» الزوجة الطفلة التي لا تطيق الوطء، ومن حق الرجل أن يجامع زوجته المتوفاة دون أن يُتهم بزنا أو يتعرض لعقوبة أو توقيع حد، كونها ما زالت في حكم الزوجة رغم الوفاة، وهو ما اصطلحوا عليه معاشرة «الوداع»، وغيرها من الفتاوي الشاذة التي تأباها النفس السوية.
هؤلاء أصحاب الماضي الأصولي والانسداد التاريخي خططوا ومنذ ظهورهم في سبعينيات القرن الماضي لأن تكون مصر محمية سلفية، لكن المصري الذي يجمع بين الدنيا والدين، يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا ويعمل لآخرته كأنه يموت غدًا؛ محصن دائمًا بإيمانه وصلابته ضد هذه الأفكار الرجعية، وهل ينسى التاريخ وعي المصريين في 30 يونيو حين اسقطوا نظام فاشيستي إلى غير رجعة.