الأديب بهاء طاهر: ابن الأقصر البار

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

أعرف عائلات الأقصر وبيوتها الصغيرة والكبيرة وأكاد أعرف منابتها ومواطن العز لأفرادها أو مثالب من يقل شأنه فيها، وأذكر أننى حين وقعت عيناى على تلك المطبوعة صغيرة الحجم قليلة الأوراق المعنونة «بالأمس حلمت بك» أواخر العام 1984 استغرقتنى كثيرًا، فما كان إلا أن حملتها بيدى لأقرأ منها على أصدقائنا فى الاجتماع الأسبوعى لنادى أدب الأقصر وتناقشها سويَّا، وفاجأنى عواجيز وشيوخ الجلسة ومنهم الشاعر الكبير أستاذى محمود منصور وعمنا الروائى القاص الملقب بالأقصرى سيد مسعود أن صاحب هذه المجموعة القصصية الرائعة هو واحد من أبناء الأقصر المقيمين خارجها اسمه بهاء طاهر، وهو من عائلة العمارانى بالكرنك.

ولم أكن قد سمعت عنه أو قرأت له من قبل رغم أن طيور الجنوب الثلاثة المهاجرة التى علا ذكرها وشاعت قصص انتشارها فى شمال البلاد، وأعنى بهم عبد الرحمن الأبنودى وأمل دنقل وعبد الرحيم منصور، كانت تمثل لنا نحن القابضون على جمر الصعيد المستسلمين لجفائه حلمًا يراود الكثيرين ويخافون من تبعاته.

كانت معرفة بهاء طاهر والبدء فى قراءته والغوص فى عوالمه الثرية التى تلمسنا ونعيشها ربما دون أن نستوعب أسرارها هى الاكتشاف الثانى لمعنى (الكرنك).

والذى عرفناه سابقًا من كتابات وقصص يحيى الطاهر عبد الله، بما دفعنى شخصيًا للسعى الحثيث نحو هذا العالم الواسع جدًا المكتظة به أبهاء المعابد وعوالم الإنسان الأقصرى الفريدة.

وربما كانت مجموعتى الشعرية «نقوش على جدران الكرنك» الصادرة بعد تاريخ معرفتنا لأحد منتوجات بهاء طاهر واحدة من الأصداء الخفية لانتباهى هذا.


ربع قرن آخر يمضى دون أن نرى أو نلتقى بهاء طاهر، فقد كانت صلته بالأقصر منقطعة تقريباً بين انشغالاته وسفراته الكثيرة، حتى كان انعقاد إحدى دورات مهرجان طيبة الثقافى الدولى الذى كنا نقيمه فى الأقصر.

وانقطعت دوراته من العام 1994 إلى العام 2006، لنقرر دعوة بهاء طاهر وتكريمه خلال المهرجان ونحتفى به كواحد من أبناء المدينة التى نفخر بها وبمبدعيها، لتكون هذه البادرة فاتحة لمرحلة جديدة وعفية من العلاقات الوطيدة التى تتوالى و تمتد وتكبر بين أدباء الأقصر ومحيطها الجغرافى كبيرهم وصغيرهم وبين بهاء طاهر، ولكى تنمو شبكة العلاقات الإنسانية وتتجذر.

وكان يعبر دوماً عن اعتزازه بما يلتقيه من حفاوة وتكريم، وتكررت زياراته للأقصر وزيارتنا له فى مسكنه بالقاهرة، وعندما فاز فى العام 2008 بجائزة البوكر فى نسختها العربية اتصل هو بى فرحًا ومهنئًا ليقول إنه قرر أن يتبرع بمبلغ كبير من قيمة الجائزة ليدعم بها أدباء الأقصر عارضًا أن يرسل المبلغ لى فى حسابى الشخصى لأتولى وضع الفكرة موضع التنفيذ بسرعة.

وعندما ناقشته رافضًا مبدأ أن تكون الجائزة فى يد شخص واحد لأن العبث قد ينالها، توصلنا إلى فكرة أن نضع المبلغ وديعة فى اتحاد كتاب مصر لتكون الجائزة ضمن الجوائز الخاصة التى يشرف عليها اتحاد الكتاب.

وتحمس الأستاذ محمد سلماوى للفكرة عندما عرضناها عليه، واشترط بهاء طاهر أن تكون الجائزة خاصة وتمنح سنويًا لأحد مبدعى محافظة الأقصر، وتم التنفيذ على هذا الأساس واستمر العمل بهذا المبدأ ربما لأكثر من خمس سنوات، إلى أن قام الرئيس الجديد لاتحاد الكتاب بتغيير المبدأ الذى تأسست من أجله الجائزة، فأصبحت تمنح لواحد من أدباء مصر ففقدت معناها وهدفها القائم على تخصيصها لتشجيع ودعم أدباء الأقصر الذين رآهم بهاء طاهر جديرين بهذا.


فى العام 2009 وفى أثناء انعقاد دورة جديدة من دورات مهرجان طيبة الثقافى أعلن بهاء طاهر أنه سيتبرع بقطعة أرض ورثًا عن والدته ليقام عليها قصر ثقافة لخدمة أبناء الأقصر، تحمس اللواء سمير فرج محافظ الأقصر فى ذلك الوقت صاحب الأيادى البيضاء على الفعل الثقافى والجهد الكبير والرؤية الواعية لتطوير مدينة الأقصر.

وتم تذليل كل العقبات ليقام قصر ثقافة بهاء طاهر الذى يعد الآن واحدًا من الإضاءات الثقافية الكبيرة فى المحافظة، ولقصة ومشوار بناء قصر ثقافة بهاء طاهر تفاصيل كبيرة جدًا لا يتسع المجال هنا لسردها، الخلاصة أن بهاء الأديب والمثقف التنويرى صاحب الموقف السياسى والفكرى الواضح المناوئ الرافض لهيمنة الإخوان.

على مقدرات الوطن فكريًا وسياسيًا، وقد شارك بقوة فى اعتصام المثقفين بوزارة الثقافة وشاركنا المسيرات المنددة بقرارات الوزير الإخواني، لم ينفصل أبدًا عن جذوره التى عاد إليها وكأنه لم يولد ويعيش بعيدًا عنها فى القاهرة أو متنقلًا بين قارات ومدن العالم، كلمة ترحيب واحدة وكلمة ثناء من أديب أقصرى صغير أو كبير كانت كافية لتفتح بوابات المحبة وأنهار العطاء الإنسانى الوفير. 


فى إحدى زياراته أخبرنى أنه يشتاق لرؤية (دير الشايب أو دير الأنبا باخوميوس) الذى تأسس فى عهد الملكة هيلانة ودارت فيه وحوله رواية «خالتى صفية والدير» وطوال الطريق كان يحدثنى عن تفاصيل داخل أروقة الدير رغم أنه لم يزره منذ أكثر من خمسين عامًا تقريبًا.

ولكنه يحتفظ فى ذاكرته ووعيه بتفاصيل هائلة من تلك الأحاديث التى كانت ترويها له والدته عن علاقة أهالى الأقصر وبخاصة نجوع الكرنك والمنشاة بالدير، قضينا سويًا نصف يوم تقريبًا نتجول ونستمع إلى أحاديث الرهبان والقساوسة لنعود وكأنه عائد من طفولته الأولى.


لم يكن بهاء طاهر يتحدث كثيرًا عن أعماله التى كتبها بل عما قرأه للأدباء وبخاصة الشباب منهم، لم أسمعه يومًا ذاكرًا أحدًا من أبناء جيله أو غيره بسوء، سألته مرة عن طرائق كتابته أو التقنية التى يفضلها فاجأنى أنه قال بكل ثبات (الرواية هى فن الحذف و ليس فن الإسهاب أو سرد التفاصيل).

وقال: يسعدنى كثيرًا أن أحذف الكثير مما كتبت وأن أقول ما أريد بأقل عدد من الكلمات، أخبرته أن هذه تقنية خاصة بالشعر تمسك برأيه قائلًا (تأمل لغة القرآن الكريم فى السرد).


ليس فى وسع من يعرف بهاء طاهر عن قرب إلا أن يحبه ويتعلق بكل ما يأتى عن طريقه، كان ولا يزال إحدى العلامات المضيئة فى مسيرة السرد العربى وسيظل واحداً ممن عشقوا الأقصر وتعلق بها فأحبته وزادت.


اقرأ ايضا | درس الأستاذ بهاء : الكتابة بِوعيٍ مُتيَقّظ