درس الأستاذ بهاء : الكتابة بِوعيٍ مُتيَقّظ

الأديب الكبير بهاء طاهر
الأديب الكبير بهاء طاهر

غادرنا العزيز بهاء طاهر خِلسةً بعد معاشرة طويلة للمرض. لم يكن يشكو من مرضه، وكان يواجه تغيّرَ أطوار العمر بأناقةٍ مثل تلك الأناقة التى تطبع ممارسته للصداقة. أخمّنُ أن عناصر كثيرة تكمن وراء شخصيته ومواقفه فى الحياة؛ وأيضا فى إنضاج ذلك الوعى المتيقظ والمُتجدّد من خلال ممارسته للكتابة القصصية والروائية.

اقرأ أيضاً| محطات في حياة الروائي الراحل بهاء طاهر| فيديو

وإذا كان بهاء طاهر وجها أساسيا ضمن مُبدعى جيل الستينيات فى مصر، فإن ملامح خصوصيته تميّزه عن بقية زملائه من الكتاب الذين جسروا على أن يقطعوا حبْل السُّرّة مع الواقعية، وبخاصّةٍ فى نسختها الاشتراكية التى كانت تزعمُ أن باستطاعتها أن تستوعب الواقع وتوجّهه لإنجاز ما تُبشّرُ به الثورات والإيديولوجيات.

وهذا لا يعنى أن الإبداع الأدبى يستغنى عن الواقع والملموس، وإنما يتعلق الأمر بإبراز خصوصية الأدب المعانقة أيضا لِزئبقيةِ واقع النفوس والعواطف والأحلام، والحريصة على ارتياد فضاءات الشكّ والتناقضات فى عالم دائم التحول، وفى ظلّ قيَمٍ تتلاشى فاعليتُها كلما عبَرتْ الإنسانية مسافة جديدة نحو استكشاف المجهول.

 لقد كان بهاء طاهر واعيا للسياق الذى جعل جيْله يُقدمُ على مغامرة أدبية تنحو صوْبَ التجديد وبلورة كتابةٍ تصبو إلى اختراق صلابة المجتمع المصرى، وهو ينتقل من نظام إلى نظام،ومن الوصاية إلى تحرير المواطن. ونحن نجد هذا الوعى مُتجليا فى المقدمة التى كتبها لروايته المتميزة «خالتى صفية والدّير» (دار الهلال،1991) إذ يقول: «..غير أن فترة التغيّرات الثورية الكبيرة انتهتْ وتحولتْ الثورة إلى نظام.

ونظام شديد الوطأة. عند ذلك، إذْ بينما كانت الانتصارات الوطنية تتوالى، كانت الهزائم تتراكم على جبهة الحريات الفردية وحقوق الإنسان. وتعرّضَ الكتابُ والمواطنون فى جملتهم لأنواع من الحيرة والتمزق: كانوا يؤيدون السياسة الوطنية العامة لنظام عبد الناصر.

ولكنهم يعترضون تماما على الطابَع الشمولى لهذا النظام الذى يُقاسون منه. وفى ظلّ هذه الحيرة فإن الأدب الواقعى المُتفائل الذى يُبشر بالنصر وبالإنسان الفاعل، المؤثر، لم يعدْ له مكان» ص 21.

 فعلا، جيْل الستينيات فى مصر (وقد كانت له أصداء مؤثرة فى الأجيال النّظيرة له فى الفضاء العربي) استطاع أنْ يجترح مجالات جديدة فى الكتابة الإبداعية، وكان هذا الإنجاز مُواكِبا للتحولات المتسارعة التى عاشتْها المجتمعات العربية بعد الاستقلالات، وبعد فشلها فى بناء الدولة الوطنية المُحرّرة للمواطن وللمؤسسات.

وكما لاحظ العزيز بهاء، فإن جيل الستينيات فى الأدب المصرى، لم يصدر فى إنتاجه عن «بيان» يحدّد شكل ومضمون ما يكتبونه؛ وإنما جاء استجابة لتحولات مجتمعية وثقافية، تريد أن تعيد الاعتبار للفردِ ومشاعره وتجاربه المعقدة وسط مجتمع يبحث عن تحرير مُتمنّع تعرقله المؤسسات السلطوية، والقيادات المزيّفة.

وبِمثلِ هذا الوعى، انفتح باب الإبداع العربى على مصراعيْه لِيرتادَ كل الفضاءات والتجارب والأسئلة المحرجة. هكذا استطاع الأدب العربى المعاصر، الجدير بهذه التسمية، أن يكون حديث النفس للنفوس ومُجسّدا للقيم وصراعات التاريخ ضمن مسيرةٍ تتطلع إلى تغيير يعيد للجدليةِ وظيفتها الثورية. 

أودّ فى ختام هذه التحية لتجربة بهاء طاهر الكاشفة، أن أعبر عن إعجابى المتجدّد بقصته «بالأمس حلمتُ بك»، لأننى وجدتُ فيها نواة لتلك الهموم التى تحاصرنا، نحن جيل الستينيات، الذين يحلمون رغم الهزائم المتراكمة، بتحقيق حرية الوجود الفردى وحرية المجتمع المدني. فى هذه القصة، تسأل الفتاة الأجنبية السارد المصرى المتمنّع عن ربط علاقة معها:
قل لى أرجوك ماذا تريد؟ 
ما أريده مستحيل.
ما هو؟
أن يكون العالم غير ما هو، والناس غير ما هُمْ. قلتُ لكِ ليس عندى أفكار،ولكن عندى أحلام مستحيلة . 
 لقد كان بهاء محقا إذْ جعل عنوان مقدمته لرواية «خالتى صفية والدير»: وسأنتظر»؛ وكان يقصد: «أعرف الآن أن ما بدأناه وشقينا من أجله، سيجد مَنْ يُكمّله.. وسأنتظر» . 

 فعلا، لم يخبْ انتظاره، فبَعْدَ جيْله، تعاقبتْ أجيال من المبدعين تكتب وهى حريصة على التجديد وطرْق الموضوعات المُحرّمة بغير حق، وصوْغ الأسئلة التى توقظ الوعيَ من غفوته. لكن العقبة التى تعترض الإبداع باستمرار، فى الفضاء العربى.

وتتمثلُ فى أن مَنْ بيدهم السلطة يخشون من حرية الإبداع، ومن تجرّؤهِ على طرح الأسئلة المحركة للوعى والوجدان. وهذا ما يستدعى التمسك بالوعى المُتيَقّظ الذى حفظ عليه الراحل بهاء طاهر طوال رحلته فى الحياة.