الأديب بهاء طاهر: رأيت فيه مصر التى أحبها

صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه

قبل عشرين عاما، زار بهاء طاهر مدينة تطوان شمال المغرب. كنت أعرف أنه أحد أبرز كتاب الستينيات فى مصر. وكان أستاذى الناقد والأديب محمد أنقار حدثنى عنه وعن مكانته الأدبية الرفيعة باعتباره قصاصا وروائيا ومترجما ومثقفا بارزا. تكونت لدى صورة خاصة عن الرجل قبل اللقاء به؛ خصوصا أنه قادم من مصر التى أحبها، وهو صاحب رواية« خالتى صفية والدير» التى شاهدناها عملا دراميا رائعا. 


رافقت بهاء طاهر لأيام فى تطوان، يتكئ على ونحن نقطع شارع محمد الخامس، يتعب ويقول لى«أنا عجوز»، نرتاح فى مقهى ثم نواصل المسير. أنا أسأل وهو ينصت ويبتسم بهدوء، ويتطلع بحاجبيه.. يقول كل شيء دون أن يتكلم. وحين أحدثه عن أدبه يبتسم ويتساءل: صحيح؟. أتذكر إلحاحه على ليشترى قفطانين مغربيين لابنتيه.

 

كان حريصا على هدية تحمل هوية المغرب الذى يزوره. وأتذكر أيضا إلحاحه أن نذهب معا إلى حدود سبتة المحتلة، ليراها ولو من بعيد. لم أكن أدرك حينئذ أهمية طلبه وجدواه، لكن فيما بعد عرفت.. إنه فضول المثقف والروائى الباحث عن المعرفة.


فى ذلك الوقت كنت حريصا أن يتعرف بهاء طاهر أستاذى محمد أنقار. لقد كان أنقار قارئا جيدا للأدب العالمي، ومتابعا حقيقيا للثقافة المصرية. حدث اللقاء ذات صباح فى منطقة هادئة مطلة على البحر، بحضور بهاء طاهر ومحمد أنقار ومحمد مشبال والمخرج المصرى سيد سعيد.

وكم كانت دهشتى وأنا أتابع حوار المثقفين الحقيقيين، الحديث عن أهم الروائيين المشهورين والمغمورين، وأهم المجلات، والأفلام. كانت فرصة حقيقية لتلمس صورة الكتاب الذين نحبهم عن قرب. 


قضينا أسبوعا مليئا بالمشاعر المتدفقة، عرفت أن هذا الكاتب الكبير ليس فقط نجما فى عالم الأدب، بل إنسانا مهذبا عذبا رقيقا، متواضعاً تواضعا حقيقيا وليس مصطنعا. ولا أنسى لحظة الفراق؛ حضننى بشدة بينما لم أستطع أنا أقول شيئا، كانت الدموع محبوسة فى عيني.

ولكنى تركتها تسقط بهدوء وأنا فى طريقى إلى البيت. وتبدأ علاقتى ببهاء طاهر، أحدثه باستمرار عبر الهاتف، أتابع أخباره ويتابع أخباري، أسمى ابنى على اسمه«بهاء» ... كم كان سعيدا وأنا أخبره بذلك. 


فى عام 2008، سأزور القاهرة للمشاركة فى الاحتفال بمئوية جامعة القاهرة بدعوة من الدكتور سيد البحراوي. وجدتها فرصة لزيارة مصر التى أعشقها، لكنها كانت فرصة حقيقية للقاء إنسان أحببته. زرته فى بيته رفقة أخى محمد مشبال، حكينا طويلا فى الأدب وأحوال الأوطان. نصحنا بحب وصدق.

وقال لى يجب أن تكتب بإحساسك وأن تطرق دائما أرضا جديدة، ونصح محمد مشبال أن يكون نقده عربيا كليا وليس محصورا فى جغرافيا ضيقة. ثم اصطحبنا إلى مكتبة الديوان، هناك سيبدأ فى توجيهى إلى كتاب بعينهم، سعد القرش، ميرال الطحاوي، منصورة عز الدين، مى التلمساني.

وهؤلاء الذين صاروا أصدقائى فيما بعد. فى مكتبة الديوان عرفت أن الكاتب محبوب من قبل الشباب، يسلمون عليه بحرارة، يناقشون رواياته وهو يضحك ضحكته الطفولية. تحدثه فتاة فى العشرين بعشق عن روايته« نقطة النور»، بينما يقول لنا إن هذه الرواية لم تلق ترحيبا من قبل النقاد. يحدثه أخى عن«قالت ضحى» فيحكى هو بشغف عنها. حكى لى كيف حذف مئات الصفحات لتستقر فى حجمها الصغير، بعد أن كان حجمها بحجم رواية«السلم والحرب»" لتولستوى. 


يمسك بيدى ونحن نقطع شارعا طويلا فى الزمالك، يدعونا لوجبة كباب، ثم للجلوس فى مقهى صغير يسميه هو» المقهى الليلي" يقولها وهو يضحك... للمقهى الليلى حكاية أيضا. كنا نسير ببطئ بينما يشير هو إلى بناية ويحكى عن علاقته بجمال عبد الناصر، ومعارضته له فى البداية، وعشقه له بعد وفاته. يحكى أيضا عن السادات، وعن المنفى والكتابة. كان عقله مليئا بالحكايات العذبة.
 أعود إلى المغرب محملا بمشاعر جميلة، لأبدأ فى كتابة روايتى«أجراس الخوف» التى أهديتها له عام 2015.

وكم كنت سعيدا وهو يحدثنى من أبو ظبي ذات صباح، ليحكى بحب عن الرواية بعد أن قرأها. كانت كلماته محفزة جدا وصادقة.. شعرت بالفخر والاعتزاز... بل إن سعادتى تفاقمت حين أرسل لى هدية مع أخى محمد مشبال من القاهرة إلى تطوان.

ومذكرة لنجيب محفوظ وجاكتة كتب عليها«أنا مصرى وأبويا مصري» وهدية لبهاء الصغير. كتبت عن روايته» نقطة النور" دراسة بعنوان» صورة الشخصية فى رواية نقطة النور لبهاء طاهر، نشرت فى ملف خاص عنه بمجلة«المجرة»، وكتب محمد أنقار كتابا عن الرواية نفسها بعنوان «ظمأ الروح.. أو بلاغة السمات فى رواية نقطة النور»، بل إن محمد أنقار جعل روايته موضوعا للتدريس فى كلية الآداب بتطوان.


لم يكن بهاء طاهر فى نظرى كاتبا فريدا له بصمته الخاصة فقط. بل كان إنسانا حقيقيا نادرا. ومثقفا عروبيا قوميا بارزا مهموما بقضايا الوطن والناس. كنت أرى فيه مصر التى أحبها بكل تنوعها واختلافها. لقد أسهم عبر تواصلى معه لسنوات طويلة فى بناء شخصيتى، على نحو ما علمنى حبَّ الأدب و عشق الكتابة.

اقرأ ايضا | الأديب الكبير بهاء طاهر: في رحلة البحث عن الحب والذات.. الحضارة الفرعونية إجابة عن أزمات الواقع