يعلي الإسلام كثيرًا من شأن الأخلاق، فهو ليس مذهبا اجتماعيًا أو عقيدة سياسية، بل في جوهره هو الأخلاق.. ثم الأخلاق.. ثم الأخلاق.. إنه دين الرحمة الذي جاء ليخاطب الناس.. كل الناس.. عربهم وعجمهم.. داعيًا إياهم إلي طريق الحق، بلا غصب أو إكراه، هو دين التسامح الذي يرفض أن يمارس أحد القمع باسمه، أو يفرضه بالقوة علي الناس.. فما كانت تلك أبدًا رسالته.. إنها رسالة الحب.. ومخاطبة الناس بالتي هي أحسن.
الإسلام موجود منذ بدء الخليقة فقد كان آدم مسلمًا، إلا أن النبي الكريم محمد صلي الله عليه وسلم في بعثته كان مجددًا لهذا الدين في الواقع، والنبوة هنا كانت هي العنصر الأساسي في هذا الإحياء، لأنها فصّلت روح الدين ولم تقف فقط عند أوامره، فهضم الناس الدين واستوعبوه وكان إليهم أقرب، فهموا الدين بأنفسهم دون كهنة وطلاسم، لم يحتاجوا إلي معجزات كتلك التي أرسلها الله مع موسي.
فقد كانت روح الدين معجزة سيد الخلق أجمعين، فدخل الإسلام في أعماقهم، وتحول إلي قوة محركة.. إلي موجه لحياة الإنسان، لم يأت الإسلام ليقيم دولة بل جاء ليصبغ قلوب البشر بحركة الإسلام.
الإسلام الحقيقي في الكتاب والسنة لم يتحدث عن القوميات والحدود لم يبشّر بدولة الخلافة، بل جاء ليبعث في الإنسان روح السلام، جاء تصحيحًا لمسار الإنسان وليس كمذهب اجتماعي تقليدي للبشرية.
إن اختزال الإسلام في أنماط ومذاهب اجتماعية وثقافية وفي عدد من الأفكار السياسية والعسكرية سلب من الدين روحه التي بعث بها من الله، فسلبت من الإنسان عقله وإخلاصه وخلاصه، وضاع الإنسان بين سندان التقليد الأعمي، ومطرقة استخدام الدين في السياسة؛ وكلاهما لا يتمشيان مع روح الإسلام التي جاء بها أنبياء الله.
إن إحياء روح الدين في نفوس المسلمين كفيل بأن يغير حالهم بتلقائية، وسنجد الحضارة والأمة عندما نجد روح الدين في نفوس البشر، لأن روح الدين في الانتقال من الأنانية الإنسانية إلي حلاوة الإيمان التي تزيل الغل والأحقاد.
والسؤال.. هل فكرت يومًا ما هي أهداف رسالة النبي صلي الله عليه وسلم؟.. فنحن نعرف جميعًا حديث النبي (بني الإسلام علي خمس) لكن ما هي الأهداف الرئيسية لرسالة الإسلام..
هناك ثلاث آيات وأحاديث جمعت مقاصد الرسالة المحمدية، يقول تعالي "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، تحدد الآية أن الرحمة بالبشرية كلها وليس المسلمين فقط.. هي سر الرسالة المحمدية.
وفي قوله تعالي " كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ"، والتزكية معناها أنه يطهر أخلاقكم ويحسنها ووضع الأخلاق قبل تعليم الكتاب والحكمة.
إن أهداف ومقاصد رسالة النبي صلي الله عليه وسلم تدور كلها حول الأخلاق، وليس من المبالغة أن نقول إنها المقصد الأساسي من الرسالة المحمدية.. وقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
هذه هي الحقيقة التي يجب أن ندركها، وأن نضعها نصب أعيننا دائمًا، حتي لا نحيد عن رسالة الإسلام الحقيقية وهي الأخلاق.. في العبادة.. في معاملاتنا.. في كل أمور حياتنا لابد وأن تكون الأخلاق حاضرة.. لا ينبغي بأي حال تهميشها، والتعامل معها علي أنها شيء ثانوي لا ضرر من تركه.
ولو لم يكن الأمر كذلك، لما استحوذت الدعوة إلي مكارم الأخلاق علي كل هذا الاهتمام من النبي صلي الله عليه وسلم، ولما كان دائم التذكير لأصحابه، ونحن من بعدهم بضرورة التحلي بحسن الخلق.. فهل تعلم أن عدد الأحاديث النبوية المروية عن النبي 60 ألف حديث بكل درجاته، من بينها 2000 حديث في كل أحكام الشريعة؛ أي حوالي 3% من الأحاديث، بينما 97% من الأحاديث كلها أخلاق مرتبطة بالعقيدة.
فالأخلاق هي جوهر العقيدة، وكل عبادة في الإسلام متعلقة بخلق معين مرتبط بها، وكلما زاد فضل الخلق زادت قيمة العبادة المتعلقة به وزاد الثواب؛ فالثواب في الإسلام علي قدر نفع المجتمع لذلك جاءت أحاديث حسن الخلق في أعلي درجات الثواب لأنها أهم فوائد الدين.
"ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق وإن الله يبغض الفاحش البذيء"، " أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة تقوي الله وحسن الخلق"، "إن أحسن الناس إسلاماً أحسنهم خلقًا"، "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وخياركم خياركم لنسائهم".
"أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوي الله وحسن الخلق"، "أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا الموطئون أكنافًا"، "كنا جلوسا عند رسول الله إذ جاءه أناس فقالوا: من أحب عباد الله إلي الله تعالي ؟ فقال النبي: أحسنهم أخلاقًا"، "ألا أخبركم بأحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة ؟ فأعادها مرتين أو ثلاثا.. قالوا بلي يا رسول الله.. فقال: أحسنكم أخلاقًا"، "إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم"، " أنا زعيم (ضامن) بيت في أعلي الجنة لمن حسن خلقه"، "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم ببسطة الوجه وحسن الخلق". وكان من دعاء النبي "اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت".