تاريخنا المسكوت عنه في حرب الاستنزاف!

د. محمد عبود
د. محمد عبود

قبل أن ينقضي شهر أكتوبر، وقبل أن تنقضي احتفالاتنا بذكرى العبور العظيم، وجهت لي الأستاذة الدكتورة كرمة سامي أستاذ الأدب الإنجليزي بكلية الألسن، جامعة عين شمس، ورئيس المركز القومي للترجمة الدعوة لإدارة ندوة بعنوان: "ذات يوم في مصر.. حرب الألف يوم من الاستنزاف إلى نصر أكتوبر". ولا شك أن العنوان يُظهر إدراكا عميقا وفائقا لأهمية حرب الاستنزاف المهدور حقها كحلقة مهمة، وتوطئة أساسية، ولابد منها لإعداد المقاتل المصري آنذاك من أجل تحقيق نصر أكتوبر 1973.

 

من ليس له ماض، ليس له حاضر، ولا ينتظره مستقبل مشرق. وانتصار أكتوبر بكل عظمته وأوجه وإشراقه، لم يحدث بمعجزة سحرية، أو دون تخطيط مسبق وعمل جاد، بل كان ابنا لجهود جبارة بدأتها القيادة السياسية، آنذاك، برئاسة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، والقوات المسلحة المصرية برجالها البواسل في سبيل إعادة بناء هذه القوات، وإعدادها لحرب التحرير، واستعادة السيادة المصرية الكاملة على سيناء.

 

بدأت حرب الاستنزاف في الأول يوليو 1967، بعد حوالي ثلاثة أسابيع من حرب 1967، بمعركة "راس العش" قرب بورفؤاد التي أراد العدو احتلالها، لتهديد ميناء بورسعيد، واحتلال آخر بقعة من سيناء، فتصدت له قوات الصاعقة المصرية بقيادة الرائد الشجاع "سيد الشرقاوي"، طيب الله، ذكره، الذي تمكن بصحبة ثلاثين مقاتلا مصريا، وبتسليح خفيف من تدمير ثلاث دبابات إسرائيلية، وعدد لا بأس به من العربات نصف مجنزرة، وأوقع في العدو خسائر بشرية فادحة مما اضطر القوات الإسرائيلية للانسحاب لأول مرة منذ السادس من يونيو 1967.

 

أطلق الرئيس الراحل جمال عبد الناصر على هذه المعارك التي استمرت ثلاث سنوات، اسم حرب الاستنزاف. وأطلق عليها الإسرائيليون حرب "الألف يوم- مِلحيمِت إيلِف هيَّاميم". وواضح من التسمية العبرية أن العدو الإسرائيلي كان يعد الساعات والأيام لتنتهي هذه الحرب التي دفع فيها ضريبة دماء باهظة، أفقدته جزءا كبيرا من نشوة الانتصار بعد 1967. وفي الوقت نفسه، استفادت قواتنا المسلحة طيلة فترة المعارك من تحطيم نفسية العدو، وكسب الوقت اللازم لإعادة بناء القوات المسلحة.

 

فلسفة حرب الاستنزاف يمكن فهمها من شهادة اللواء محمد صادق مدير المخابرات الحربية المصرية، آنذاك، الواردة في كتاب "أسرار جديدة عن حرب الاستنزاف" الصادر عن الهيئة العامة للكتاب، وفيها أن اللواء صادق أقنع الرئيس عبد الناصر أن صورة الجندي الإسرائيلي في مخيلة القوات المصرية على ضوء نتيجة حرب يونيو 1967 هي صورة "المقاتل الذي لا يقهر"، ولو تُركت هذه الصورة لتترسخ لأصبح من المتعذر على القوات المصرية أن تواجه جيش الاحتلال في أي صراع عسكري مقبل.

 

ووفقا للواء صادق، إذا كانت مصر ستخوض معركة تحرير أرضها واستعادة كبريائها فإن الخطوة الأولى هي تحطيم صورة المقاتل الاسرائيلي "الذي لا يقهر" قبل أن تترسخ في عقول المقاتلين المصريين، ولتحقيق هذا الهدف، من الضروري أن تبدأ عمليات فدائية ضد قوات الاحتلال في شرق قناة السويس، مؤكدا أن سقوط قتلى وجرح وأسرى في صفوف العدو سيؤدي إلى استنزافه ونزع الهالة الزائفة التي اكتسبها في يونيو 1967.

 

وبالفعل بدأت المرحلة الأولى من حرب الاستنزاف ببناء الدفاعات المصرية غرب قناة السويس، وفى الوقت نفسه، بدأت القوات المصرية إعادة تسليح عناصرها بالأسلحة التى كانت تصلها من الاتحاد السوفيتىـ لتنتقل إلى مرحلة الهجوم والردع. فهل نجحت هذه الحرب في تحقيق المراد منها؟ هنا يجب أن نقرأ بعناية ما سجله العقيد احتياط "دوف تامري" الذي خدم في عدة أسلحة بالجيش الإسرائيلي منها القوات الخاصة وسلاح الاستخبارات الحربية، وكتب دراسة مهمة عن تلك الحرب، يقول فيها: "حرب الاستنزاف كانت الرابط الرئيس بين حرب 1967 وحرب أكتوبر، وهي الوقود الحقيقي الذي أشعل حرب يوم الغفران". ويضيف "تامري": "إن إسرائيل اعتبرت حرب الاستنزاف سابع أيام حرب الأيام الستة 1967، أما المصريون فخططوا لأن تكون حرب الاستنزاف هي أول أيام حرب يوم الغفران التي لم يكن موعدها تقرر بعد"!

 

قصة حرب الاستنزاف المسكوت عنها، والمهدور حقها في كتابة تاريخنا الوطني والسياسي والعسكري، هو ما عالجه بالتفصيل ضيوف ندوة المجلس القومي للترجمة: اللواء محمد عبد المقصود رئيس قطاع إدارة الأزمات والكوارث بمركز المعلومات و دعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء، وخبير الشئون الإسرائيلية المعروف الذي يجمع ما بين الخبرات العسكرية والأمنية والرؤية العميقة للشأن الإسرائيلي. والأستاذة الدكتورة نازك عبد الفتاح أستاذة اللغة العبرية، وصاحبة الدور الوطني المشهود في قضية استرداد طابا، والأستاذ الدكتور محمد صالح أستاذ اللغة العبرية وآدابها، بكلية الآداب جامعة القاهرة، ورئيس مركز الدراسات الشرقية، وصاحب الدور الوطني المشهود، والأبحاث الخطيرة في مجال الدراسات العبرية والإسرائيلية.

 

وفي الأخير، يجب أن تكون هذه الفعالية الوطنية خُطوة أولى في طريق البناء المعرفي والفهم الأعمق لدور حرب الاستنزاف في التمهيد لمعركة العبور، فإذا كانت حرب الاستنزاف تعرف في إسرائيل بـ"الحرب المسكوت عنها" لشدة الخسائر التي تكبدتها تل أبيب. وإذا كان الجيش الإسرائيلي ظل ثلاثين عاما كاملة يتجاهل مقاتليها، فأصدر أوسمة وأنواط شجاعة للحروب الإسرائيلية جميعا دونا عن حرب الاستنزاف، حتى تراجع عن قراره منذ بضعة سنوات فقط. فالواجب علينا كمصريين أن نتصدى لهذه المهمة الوطنية من أجل الأجيال القادمة، ومن أجل الحفاظ على تاريخنا، وتخليد انتصاراتنا. فالمعروف أن: "التاريخ يكتبه المنتصرون"، ومن لا يسجل تاريخه، لا يلومن إلا نفسه، فلهم نكتب تاريخ انتصاراتنا، قبل أن يتلقفها الإسرائيلون، ويحولونها بافتراءاتهم إلى هزائم، أو على الأكثر أنصاف انتصارات.

 

د. محمد عبود

أستاذ اللغة العبرية بجامعة عين شمس