بين فترة وأخري، تطلع علينا صحف الصباح والمساء والفضائيات تبشر بالإعلان عن مشروعات جديدة لتحديث وتطوير التعليم لمسايرة التقدم العلمي العالمي وتكنولوجياته المتلاحقة.
ومع كل تشكيل وزاري، نسمع أن مجلس الوزراء قرر تشكيل لجنة وزارية لتطوير التعليم، وعلي الفور يقوم المسئول عن التعليم بتشكيل لجنة وراء أخري لبحث المشكلة واقتراح الحلول.. وهي لجان لا طائل منها، من منطلق القول المأثور: إذا أردت أن تئد مشروعا وتدفنه وهو قيد الحياة، شكل له لجنة، وما أكثر اللجان التي شكلتها الحكومات علي مدار خمسين عاما، ولم نعد نسمع عنها شيئا، وأصبحت في ذمة الله سبحانه وتعالي.
ومن المعروف أنه يتم رصد ملايين الجنيهات تهدر في الأكل والشرب، تقتطع من قوت الشعب البائس المحروم، والطريف أن هذه المؤتمرات تعقد في أفخم المصايف والمشاتي والمنتجعات للترفيه عن الأعضاء.. وتبحث عن العائد ستجد صفراً كبيراً.
والملاحظ أن التعليم في بلادنا لم يعد يحظي بمصداقية التطوير، ولم يتحقق شيء مما بشر به وزراء التعليم من تحديث وتطوير.. حتي أصبحنا في مؤخرة الدول الرغبة في النمو وتحقيق التنمية، حتي تفشي الجهل والفقر والمرض، ونتج عنها سوء الخلق وتردي السلوكيات في الشوارع والنواصي وازداد الأمر سوءا في المناطق العشوائية.
وهجر التلاميذ المدارس يصاحبهم المدرسون إلي مراكز الدروس الخصوصية.. ونسي المدرسون والتربويون رسالتهم الحقيقية في التنوير والتثقيف، وامتد الإهمال إلي المراحل الأعلي حتي وصل إلي الجامعة والدراسات العليا.. وانتشرت الدروس الخصوصية في كليات الطب، والصيدلة والهندسة، وما يماثلها في الجامعات الخاصة والعامة علي حد سواء، وتخرجت أجيال لا تجيد شيئا سوي الوقوف علي النواصي والطرقات والتخاطب بأحط الألفاظ.
إن ما حدث ويحدث سببه التخبط في السياسات التعليمية.. وأذكر أنه يوجد أكثر من عشرين استراتيجية تعليمية، ولا تزال هذه الاستراتيجيات حبرا علي ورق، وقد عاصرتها جميعا علي مدي عقود طويلة، وتفتق الذهن عن شعار يقول: «إن التعليم قاطرة التقدم وتحقيق التنمية، والقاطرة في الأصل خربانة..!». ولقد ناقشت هذه الاستراتيجيات مع الخبراء في شئون التعليم والبحث العلمي علي مدي خمسين عاما علي صفحة «أخبار الجامعات» بجريدة الأخبار التي أشرف بالانتماء إليها، وكان هو الباب الوحيد في الصحافة المصرية والعربية الذي تخصص في مناقشة قضايا التعليم والبحث العلمي والشباب في عصور ازدهار الصحافة. ولقد صدر هذا الباب يوم الأربعاء أسبوعيا منذ ١٢ أكتوبر ١٩٥٥ حتي توقف عن الصدور بعد هوجة ٢٥ يناير ٢٠١١ بفعل فاعل والفاعل معلوم، وقصة الصدور والإلغاء سيأتي يوم قريب لكشف خباياها، لتعرف الأجيال الجديدة حقيقة الوهم الكبير الذي اسمه الصحافة والإعلام.
ويعود التخبط في تطوير التعليم إلي مجالس الوزراء السابقة واللاحقة، وجميعهم يجيدون لعبة تشكيل اللجان، وقد ساهمت أجهزة الرقابة المتعددة المنوط بها أعمال المتابعة الجادة لتصحيح الأخطاء اليومية، ومنع الانحرافات في أخطر جهاز تربوي يتعلق بمستقبل الوطن.
ولم يكن الهدف من تشكيل لجان التطوير المتتالية هو تحقيق الصالح العام، بقدر حرص المسئولين علي جني أكبر عائد من المكافآت.!
ومن المحزن، مع قدوم كل وزارة جديدة، يأتي الوزير ومعه جوقة من الطبالين والزمارين، تعزف له جميع الألحان التي يحبها ويهواها.. ويتصدي لدعاة الإصلاح، وتشويه صورتهم، ويتم تشكيل لجان من نفس الوجوه القديمة.!
ومن حق الوطن أفرادا وجماعات أن يسأل الحكومات كم أنفقت من الأموال علي التعليم علي مدي عشرين عاما مثلا؟.. وبالقطع سيتخطي الرقم مئات المليارات من الجنيهات.. كلها تبخرت في الهواء، أو تسربت إلي جيوب الأرزقية والمنتفعين والمنافقين .. وبالطبع لن تجد من يقول لك الحقيقة، ومن مصلحتهم أن يستمر هذا الهدر.. والحديث موصول.