من دفتر الأحوال

خارج دائرة «النفاق» القوقازية

جمال فهمى
جمال فهمى

أحد التعريفات الشائعة للإنسان أنه «حيوان سياسي» والعبد لله ترك نفسه ينزلق حتى صار نموذجا لهذا التعريف .. والأهم من عبارة «ترك نفسه» تلك التى تحتاج لشرح طويل ليس وقته أننى أرجوك إذا اضطررت يوما لاستخدام هذا التعبير فى وصفى فلا تستعمل شطره الأول فقط .. يعنى لا تقل «حيوان» وتصمت .. أرجوك.
هذا الاستهلال أردت أن أتذرع به لأبلغ حضرتك أن عمنا الكبير وتاج رأس الرواية العربية حاليا بهاء طاهر ذكرنى قبل فترة من الزمن وأنا جالس بجواره مع باقى الأصدقاء على المقهى الذى تعودنا اللقاء فيه كل مساء تقريبا، بمسرحية «دائرة الطباشير القوقازية» التى أبدعها المسرحى الألمانى العملاق بريتولد بريخت (1898 ـ 1956).
ورغم أن أديبنا الرائع (إبداعا وخلقا وثقافة) أتى على ذكر مسرحية بريخت المذكورة فى مناسبة وسياق مختلفين عما ستقرؤه حالا، إلا أننى استلهمت المناسبة التى فى هذه السطور من حالة الضجيج المحموم التى نعيشها هذه الايام، واختصارها تلك المبارزة حامية الوطيس بشعارات تدور كلها حول حب مصر والموت عشقا فيها .. الخ، وقد استوقفنى وأنا أتأمل فى المعانى الراقدة فى أحشاء اغلبها هذا الفصام العجيب بين ستنا مصر والاخوة سكانها، ففيما يجرى تمجيد وإبداء الاستعداد التام (بالكلام) للموت فى سبيلها، فمن العجب أن السكان لايكادون يذكرون أبدا، وكأن الأوطان تستحق الوجود أصلا من دون شعوبها وأهلها!!
أما علاقة مسرحية «دائرة الطباشير القوقازية» بالموضوع فستفهمها لما تعرف أن هذا العمل الإبداعى الخالد أنجزه بريخت مستعينا بأمثولة تاريخية وفلكلورية متواترة ومعروفة ولها صياغات مختلفة بحسب اختلاف الثقافات أشهرها «الحكم» الذى أصدره النبى سليمان فى نزاع امرأتين على بنوة طفل،إذ اقترح شطر الطفل إلى نصفين بحيث تأخذ كل منهما نصفه، فلما سارعت إحداهما برفض الاقتراح وهى مذعورة وتنازلت عن الطفل للمرأة الأخرى حكم سليمان بأنها أحق به لأنها كشفت عن عاطفة أمومة حقيقية ومشبوبة تجلت فى فزعها وإيثارها سلامة ابنها على وجوده فى حضانتها!!
لكن بريخت لم يستعن بصيغة «حكم سليمان» لهذه الأمثولة وإنما اختار الصياغة المعروفة فى الفلكلور الصينى للأمثولة نفسها وخلاصتها أن القاضى الذى عرض عليه نزاع المرأتين قرر رسم دائرة بالطباشير على الأرض يقف الطفل فى منتصفها وتقوم كل من المرأتين بجذب الطفل لتخرجه من الدائرة إليها ومن تنجح وتكون أقوى فى الشد تأخذه، وإذ لاحظ القاضى أن إحداهما تركت الطفل للأخرى خوفا عليه من أذى الشد العنيف حكم لها بأنها الأحق بحضانته مع أن الراوى الذى حكى لنا هذه الحكاية الفلكلورية فى مسرحية بريخت بالتوازى مع أحداث حكايتها الواقعية الأصلية كان قد أبلغنا منذ البداية أن المرأة المحكوم لها ليست هى الأم «القانونية» للطفل بل هى أمه التى رعته وربته فى غياب «أم الدم».
باختصار .. بريخت حين استعان بهذه الأمثولة كخلفية يرويها بالتوازى مع وقائع صراع معاصر يجرى فى مقاطعة بمنطقة القوقاز بين فريقين من الفلاحين على أرض بستان تجود فيه زراعة الفواكه وصدر قرار بمنح حيازته للفريق الذى يملك كفاءة وخبرة أكبر دون النظر لأى اعتبارات أخرى بما فيها الملكية القانونية .. أراد بريخت أن يقول إن للجدارة والاستحقاق سواء فى الأمومة أو الأرض أو حتى الوطن، شروطا ومتطلبات أهم من مجرد استيفاء شكليات القانون وشق الحناجر بالهتافات الصارخة، وخلافه.
«حيوان سياسى».. أليس كذلك؟!