الخدمة المدنية ... عندنا .. وعندهم

مصر الغد

عجبت من أمر الألمان فى بداية معايشتى لهم فى الستينات بعد أن علمت أن أداء الخدمة العسكرية هو أمر اختيارى يقرره الشاب فى سن الخدمة العسكرية الإلزامية وله أن يؤجله لما بعد إتمام الدراسة الجامعية أو التعجيل به لما قبل ذلك والأغرب من هذا وذاك أن للشاب الحق فى الاعتذار عن تأدية الخدمة العسكرية سواء كان ذلك لأسباب صحية أو نفسية أو عقائدية تخص صاحبها مثل مبدأ الكراهية لحمل السلاح وبذا لا تصبح إلزامية له وتستبدل بخدمة أخرى تعارفوا على تسميتها بالخدمة المدنية.
وسألت عن فحوى ومحتوى الخدمة المدنية، فعلمت أنها تطبق على الذكور والإناث على حد سواء والذين يقبلون عليها بلا غضاضة والتى تعنى الخدمة بلا مقابل فى مجالات التمريض والتأهيل المهنى والتدريس والأجمل من هذا خدمة المرضى والمسنين والمقعدين وتشمل توصيل الوجبات الساخنة فى مواعيدها لطالبيها من المسنين فى منازلهم وتشمل أيضاً إطعامهم إذا تطلب الأمر ذلك، بل والعناية البدنية بهم. وكذا برامج الترفيه عنهم بالخروج بهم على كراسيهم المتحركة فى جولات للشوارع والمتنزهات والحدائق العامة وهو منظر متكرر نراه فى جميع المدن الألمانية.
وبذا فقد اكتملت الصورة من أن الخدمة المدنية هى قرين الخدمة العسكرية وكلاهما إلزامى وإن كان أحدهما يمكن أن يكون بديلاً للآخر حسب الرغبة التى يبديها مؤدى الخدمة.
أما عندنا فقد أخذ مسمى الخدمة المدنية منعطفاً آخر سيصدر بشأنه قانوناً كثر حوله الصخب والضجيج، إذ أن له علاقة باستحقاقات لبدلات ومزايا مالية تختص بها وظائف دون الأخرى وبذا أصبح هذا المبدأ بل وهذا القانون المزمع إصداره اسماً على غير مسمى.
فكم كان الأجدى أن يسمى هذا القانون بما يتمشى مع الهدف منه وليكن مثلاً قانون البدلات والعلاوات فى الوظائف الحكومية أو قانون تنظيم أجور وحوافز العاملين بالدولة ليبقى مسمى الخدمة المدنية معبراً عن مضمونه الذى يتماشى مع مسماه إذ أن مسمى الخدمة المدنية يقابل مسمى الخدمة العسكرية الإلزامى ويتكامل معه حيث إن الخدمة المدنية فى هذه الحالة إلزامية أيضاً لمن لا ينطبق عليه أو عليها شروط تأدية الخدمة العسكرية الإلزامى. وبذا فإن المجتمع يستفيد من شبابه المستدعى لشرف خدمة الوطن سواء كان ذلك فى مجال الخدمة العسكرية أو الخدمة المدنية والتى لا تقل عنها شرف فى جميع الأحوال، ما أحوجنا فى مصر إلى الأخذ بالنموذج الأشمل والأعم فى هذا الشأن.
وإننى إذ أبدى هذا الطرح لا أستهدف من ورائه الانضمام لزمرة الجانب المتخاذل من المجتمع والجانح للاحتجاج بلا سبب واضح على أى تطور أو تحديث تبديه الدولة دون أن يقدم بديلاً مقبولاً أو مقترحاً للمناقشة والذى أصبح ظاهرة أرجو لها ألا تستمر كثيراً، راجياً أن يفهم طرحى هذا على مبدأ مفكرنا العظيم الدكتور طه حسين الذى تعلمنا منه الفرق بين استقراء الأحرار للأحداث وغيرهم فى استقراء الأحداث إذ أن الفئة الأولى تبحث عن الحقيقة وتعلى من شأنها، أما الثانية فإنها تهاجم الحقيقة إذا تعارضت مع الموروث المكتسب أياً كان هذا الموروث.