الحج والأزهر وفتنة التدويل

قضية ورأى

الحج فريضة من فرائض الإسلام، وركن أصيل من أركان هذا الدين الحنيف، حُدد مكانه، وزمانه وبين المصطفى فيه كل معالمه، وألقى يوم الحج الأكبر يوم عرفة خطبته العالمية التى تؤكد على حرمة الدماء، ووحدة الصف، والتخلق بأخلاق الله، فلا رفث، ولا فسوق، ولا جدال فى الحج، ودعا أبناء الأمة فى قاراتها الخمس أن يلتزموا بهذه المبادئ الراقية فى التخلق، والتوحد، والسلم، والأمن، وأن يكون شعارهم فى هذا اليوم: ( لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ) هذا الشعار هو الذى يسود وحده على أرض عرفة:( يوم الحج الأكبر ). فالجميع هناك بزى واحد، ولسان واحد، وشعار واحد يقفون على صعيد واحد: سواسية كأسنان المشط، يولون وجوههم شطر بيت واحد بيت الله الحرام، لا ترى فرقا بين رئيس، ومرؤوس، ولا مالك، ولا مملوك، ولا غني، ولا فقير، ولا وزير ولا خفير.. كلهم عباد الله إخوان، تجمعهم لغة التوحيد لا لغة العنصرية والجاهلية، ولا لغة التفرق، والتظاهر المقيت.
فالحج يجب أن يكون لله تعالى فقط، لا لأمر دنيوى، ولا لفكر طائفي. على هذا أجمع المسلمون على احترام هذا الركن، وتعظيم شعائره التى عظمها الله جل فى علاه.(ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) الحج /32.
غير أننا نرى هذه الأيام أن شيعة إيران شذت عن جموع الأمة بإقصاء حجاجها عن بيت الله تعالى، واستعملت لغة التهديد، والوعيد للقائمين على تنظيم الحج!، لا لسبب سوى أنها لا تقبل بالضوابط التى وضعها القائمون على التنظيم مثل : منع تظاهرات الحجاج الإيرانيين بين المسلمين، والالتزام بوحدة الصف، والإقامة وغيرها حتى لا تحدث فوضى فى اجتماع عالمى كبير كهذا.. وهذه الضوابط من البدهيات التى لا ترفضها أى دولة..
فرأت إيران أن ذلك إجحافا بحقها فى التظاهر ضد الشيطان الأكبر الذى تدعيه كل عام، وهى معه فى غير الحج حليفة، وصديقة - سبحان الله.. ففكرت، وهددت، وتوعدت على لسان كبرائها - بعدم استقرار الحج هذا العام، وطالبت بتدويله بين الدول الإسلامية، لأن السعودية - من وجهة نظرها- عاجزة عن حماية الحجيج، واستشهدت بان العام الماضى أكثر من قتل هناك من الإيرانيين،.. وهذه نغمة طائفية، وعدائية ليس لبلاد الحرمين فحسب، بل- من وجهتى - للأمة الإسلامية جمعاء. فالحجاج هناك هم حجاج العالم الإسلامى كله، فهل من حق إيران أن تتوعد الأمة بكاملها، وتقلق الأسر فى كل انحاء الدنيا على أمن حجاجها ؟؟!.
ثم لماذا هذا التجرؤ الذى لا يمكن أن تفعله دولة غير اسلامية، فما بالنا لو كان الفاعل يحمل شعار الإسلام، ويسمى دولتة الدولة الإسلامية ؟!.
إن المسلمين فى كل بقاع الدنيا لا يقبلون أن يحمل أحد فى الحج شعارات سياسية، ولا ينادى بتظاهرات طائفية، وواجب على الأمة بكاملها أن تتصدى لأصحاب هذه الشعارات الخاطئة: بقادتها وعلمائها ورؤساء بعثاتها لسلامة هذا الركن الركين فى الإسلام.. فالأدلة الشرعية، وإجماع أهل العلم : أكدت أنه لا يجوز أن يكون الحج والعمرة إلا لله. قال تعالى ( وأتموا الحج والعمرة لله ) البقرة 196. وليس لصالح دولة ما، أو طائفة ما، أو فئة ما،.
أما رفع شعار التدويل للحرمين من الشيعة فهذا حلم إبليس فى الجنة- إن صح التعبير- فالذين يقومون على خدمة الحجيج يقومون بذلك على أكمل وجه، ولا يقصرون فى شىء، وشاهدنا ذلك باعيننا، بل شاهد كل مسلم جاء من أى بقعة فى الدنيا مدى رُقى هذه الخدمة، وتقدمها عاما بعد عام، وأهل السنة يمثلون (90) فى المئة من مسلمى العالم : اجمعوا على توكيل هذا الأمر للبلد الذى يقع فيه الحرمان النبوى، والمكي، وليس لايران، ولا للصومال، ولا حتى لمصر. فلماذا يريد آيات ايران الذين يخالفون الأمة : بلعنهم لكبار الصحابة معتقدا، كما هو غير خفي: أن يجعلوا كلمتهم على المسلمين السنة هى العليا ؟!.
من أعطاهم الحق فى ذلك؟، وهل لو وكل الأمر لايران لتدير شأن الحرمين مثلا : ستُبقى على قبرى أبى بكر، وعمر رضى الله عنهما فى المدينة، وهى التى بنت قبرا لأبى لؤلؤة المجوسى قاتل عمر - -فى أرضها، وسمته: (قبر أبى شجاع ) وتعظمه أيما تعظيم بسبب قتله لعمر- رضى الله عنه- وهو يؤم المسلمين لصلاة الفجر؟!. هل شيعة إيران يمكن أن تُؤمّنهم الأمة على مقدساتها، وهى على هذا المعتقد ؟
أما كان الأولى أن تستحى إيرآن من هذه الدعوة، أو الفتنة التى تريد إشعال نارها فى أيام الحج كل عام ؟!.
لذا احسن الأزهر الشريف الممثل الرسمى لأهل السنة فى العالم فى إصدار بيانه الصائب على لسان هيئة كبار علمائه مستنكرا لهذه الدعوة التى تفرق الجمع، ولا توحد الصف، وتشوش على عقول المسلمين، واعتبرها دعوة تمثل بابا جديدا من أبواب الفتنة، وقالت الهيئة فى بيانها ( إنه انطلاقا من مسؤلية الأزهر الدينية، والشرعية تستنكر الهيئة.. هذه الدعوات المقيتة - دعوات التدويل - من بعض القوى الإقليمية لتدويل إدارة الحرمين الشريفين - والتى تحاول إعادة هذا الطرح إلى الظهور مرة أخرى بعد أن رفضته الأمة حيث أثير فى سبعينيات القرن الماضى محذرة من الفتن، وكافة الأفكار المغرضة التى تعمل على تفكيك الأمة، وهدم بنيانها، وتمزيق أوصالها، والتى آخرها ظهور من يعلن عن تشكيل جيش طائفى داخل بعض أقطارنا العربية.
ثم حيت هيئة كبار العلماء بالأزهر: روح البذل، والعطاء التى يتسم بها، والشعب السعودى الشقيق وقيادته ، والتى تتجلى فى رعاية المشاعر المقدسة، وخدمة الحجاج، وتنظيم أداء المناسك، وتيسير أمورها بما أفاء الله عليهم، وتسخير كافة إمكاناتها لتحقيق ذلك.
وعليه فمن الواجب : إبعاد أمور العبادات الشرعية، وأركان الدين..عن الخلافات الطائفية والسياسية لأن ذلك لا يجلب خيرا للأمة..)..
ونُثمّن حقا هذا البيان، ونشد على يد علماء الأزهر الذين يقفون دوما بالمرصاد ضد أى بادرة فتنة يلوح بها آخرون، فالأمة فى حاجة إلى من يجمعها لا يشتتها، ومقدسات الأمة أعز على أبنائها من النفس والمال، والولد، ولا يستطيع مدع أنه يمكنه هز الأمن على أرض الحرمين بدون أن تُحمّله الأمة عاقبة أمره، وكان على القائمين على دعوة التدويل، والتهديد أن يوجهوا طاقتهم العدائية ضد من يحتلون بيت المقدس، لا من يخدمون الحرمين الشريفين، وضيوف الرحمن فيه، فهذا البيت هو مُؤمّن بفضل الله ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم)- الحج / 25- وقد أراد له (أبرهة الحبشي) من قبل، وكاد له كيدا: فتخطفته وجنوده الطير الأبابيل، فاعتبروا يا أولى الألباب.