يوميات الأخبار

الحكيم بين عبدالوهاب وأنور وجدي !

عندما كنت طالبا في مدرسة دمنهور الثانوية، كنت اسكن امام مقهي الأديب عبدالمعطي المسيري، وكنت اتطلع إلي زاوية بين المقهي قالوا لي : انه في هذا المكان كان  يجلس الأديب الكبير توفيق الحكيم، وكتب فيه رائعته أهل الكهف، عندما كان وكيلا للنائب العام.

وقرأت هذه المسرحية، وعلامات استفهام كثيرة كانت تدور في ذهني، فلم اكن استطيع في هذه السن الصغيرة ان اكون ناقدا، أو حتي مجرد متذوق لمثل هذه الاعمال الإبداعية الخالدة.. ولكن ايقنت انها تتحدث عن مشكلة الزمن وما يفعله بالانسان!

ومرت سنوات طويلة.. والتقيت بالحكيم وكان يعالج في مستشفي «المقاولون العرب».. وحاورته طويلا حول فلسفته التعادلية، ومشكلة الحكم وقضايا الفكر الاسلامي، ومختلف القضايا الفكرية والسياسية والدينية، ونشر هذا الحوار في مجلة آخر ساعة علي مدي ستة أعداد.

ولكني لم أنس  اول مسرحية قرأتها له وهي أهل الكهف، ولم انس حيرتي عندما قرأتها في سني الصغيرة وبماذا ترمز؟

واجابني الحكيم بما ملخصه ان اهل الكهف هي مأساة الصراع بين العقل الذي يشك والقلب الذي يؤمن وقال لي : ان عقلي يشك ولكن قلبي يؤمن، ما من رجل أحب الانسانية استطاع لحظة ان يشك في امكان تقدمها وسموها، اني اعتقد انها تتقدم، ولكن مثل تقدم المجموعة الشمسية.. كل كوكب فيها يدور حول نفسه وحول الشمس، ولكن المجموعة كلها تسير مع ذلك في فضاء اللانهاية.

وقال: إن الحرية والجمال الروحي والفني والفكر الطليق، وحقوق الانسان كل ذلك اشياء لا يمكن للانسانية ان تنزل عنها أو تنساها، قد تعصف بها حينا عواصف القوة الارضية، ولكنها لا تستطيع ان تستأصل جذورها التي تنمو وتمتد في اعماق النفس البشرية. علينا إذن نحن جنود القوي الروحية والفكرية ان ننشر الصفحات، وان نطلق الصيحات، كلما شمنت علينا الغارات جيوش القوي الارضية والحيوانية.

واذكر انني حاولت ان اتوقف عند جوانب خاصة في حياة الحكيم، وحبه للمال وحرصه عليه.

سألته: انك لم تطلب لي ولو مرة واحدة فنجانا من القهوة رغم هذا الحوار الذي امتد لساعات طويلة كل يوم وعلي مدي أيام؟

ابتسم الحكيم ولم يجب..!

وانا اعرف ان الحديث عن الفلوس تدفع الحكيم إلي الحديث.. فسألته عن دخوله عالم الكتابة، والروايات التي اخذت عنها بعض الافلام السينمائية، وما جلبته من أموال؟

ضحك الحكيم طويلا، وهو يتحدث عن هذه الزاوية من حياته.. فقال:

اتفق معي محمد عبدالوهاب علي أن يدفع لي مبلغ ٣٠٠ جنيه نظير قصة «رصاصة في القلب».. واشترطت ألا يتقاضي أي ممثل أو ممثلة مبلغا اكبر منه.

ولابد ان يكون اجري لا يقل عن اجر البطلة..

وقال لي عبدالوهاب:

ولكن البطلة ستتقاضي ١٥٠ جنيها فقط!

ويضحك الحكيم:

وبالطبع وافقت علي المبلغ «٣٠٠ جنيه».. ولكن هذا المبلغ لم آخذه بالطبع مرة واحدة بل علي دفعات!!

ويبدو أن الحديث عن الفلوس بالذات فتح شهيته للحديث عن حكايته مع انور وجدي فقال لي :

جاءني أنور وجدي وجلس معي جلسة طويلة.. اتفق خلالها علي أن يقدم احد الافلام عن قصة لي. وتم الاتفاق، وقام انور وجدي وهو يهم بالخروج قائلا:

- شيك هاند

وامسكت بيده، وانا اقول له:

لا يهمني «الهاند دي».. اريد الشيك فقط!

و.. ما اجمل الذكريات عن رجل بحجم توفيق الحكيم ينطبق عليه ما قيل  عن المتنبي شاعر العربية الاعظم: انه رجل ملأ الدنيا وشغل الناس.

من اشراقات السيرة الذكية

واتابع حديث الذكريات عن الشاعر الكبير عزيز أباظة، فله كتاب عن السيرة العطرة كتبه شعرا يتحدث فيه عن حياة الرسول منذ طفولته وصباه وشبابه إلي ان اوحي إليه، وما تبع ذلك من تبليغ الرسالة وغزواته إلي رحيله إلي أكرم جوار.

الكتاب تحفة فنية وشعرية، بما كتبه عن السيرة العطرة بأسلوب شعري جذاب.

ومع ذلك فإن هذا الكتاب المهم لم يتناوله أحد النقاد بالبحث والدراسة ولا كتب عنه احد من الذين يكتبون الأركان الادبية والثقافية في الصحف.

وقد كتب عالمنا الجليل الشيخ احمد حسن الباقوري تصدير هذا الكتاب، والذي اطلق عليه ملحمة السيرة النبوية الشريفة للشاعر عزيز أباظة. وكفي بهذا الإجمال تعريفا، فإن فيه ما يغني عن تفصيل يقصر أو يطول.

ويحدثنا الشيخ الباقوري عن الشاعر الكبير، وعن هذه الموسوعة التي كتبها عن الرسول الكريم، ويري ان الذين يقرأون هذه الملحمة بحقها عليهم من التأمل فيما يحتاج إلي تأمل، ومن الاستزادة فيما يحتاج إلي الاستزادة، لا ريب انهم ظافرون في سيرة رسول الله، بل في سيرة خلفائه الراشدين، وعمالهم، وعامة  شعوبهم، بهذه الاصول الثلاثة التي لا يستجيب خير إلا بها، ولا يقوم بناء إصلاحي صادق إلا عليها، وهي : حسن الاسوة، وصدق الاتباع، وسلامة المنهج.

وما اجمل هذه الموسوعة، ونحن نقرأ في اولها مناجاة للرسول.. العظيم منها قوله:

رسول الله جئتك في ذنوبي

ولست تردُّ مقترفا فتابا

شفاعتك الكريمة يوم نُدعي

فنبعث بعد أن كنا ترابا

ويردد في سلامة شعرية رائعة المحطات التي مرت بها الدعوة إلي ان انتصر الاسلام، ودخل الناس فيه افواجا، إلي ان حان الرحيل إلي اكرم جوار.

ويعبر الشاعر الكبير عزيز أباظة عن خاتمة حياة الرسول في هذه الدنيا يقوله:

رفع الله إليه روحه

عام ان ثبت للدين الدعاما

اجل للمرء مقدور له

ثم يمضي. إن لله الدّواما

حسبه وهو نبي بشر

أنه أيقظ الكون وناما

و.. ما أجمل الابحار في سيرة اعظم رسل السماء، الذي كانت الدنيا قبله عتمة وظلما، واصبحت به نورا وعرفانا.

كلمات مضيئة

من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه.. ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه

«الإمام الشافعي»