لم يتوقف الحديث عن تهريب المبيدات المسرطنة المحرمة دوليا إلى مصر.. البعض ينفي والبعض الآخر لايستبعد وجودها.. لكن أحدا لم يجزم بحدوث ذلك.. «بوابة أخبار اليوم» في هذا الملف تبحث عن الحقيقة.. تحدثنا مع الفلاحين والخبراء والمسئولين.. والتقطت كاميراتنا صورا لبعض عبوات المبيدات المحظورة.. توصلنا إلى حقائق صادمة واكتشفنا أن الحكومة ممثلة في وزارة الزراعة تركت الحبل على الغارب، وعندما اكتشفت الحقائق المرة تسعى لإنقاذ مايمكن انقاذه.

المبيدات الزراعية كغيرها من المواد الكيميائية والأدوية هي مواد خطرة، أي عند التعرض المباشر لأي جرعة زائدة بشكل متواصل سيؤثر حتما على صحة الانسان، لذلك يركز العلماء والباحثون على أن يكون استخدام تلك المواد عند أقل قدر ممكن ويحقق تقليل المخاطر الصحية والبيئية إلى أدنى حد يمكن قبوله عندما يتحتم استخدامها لعلاج مرض أو لإنقاذ وزيادة الانتاج الزراعى.. ويسيرون على مبدأ كلما صغرت الكميات التى يسمح بتداولها من المبيدات زادت درجة الأمان وانخفضت الخطورة فى تناول الغذاء أو الماء فيها.
وعلى الرغم من وجود عمليات تهريب للمبيدات المحظور تداولها الى داخل البلاد واستخدامها من قبل قلة قليلة من المزارعين بهدف زيادة الإنتاج والمحاصيل، إلا أنه لا يوجد دراسة بحثية عملية واحدة فى كل الدوريات العلمية كما اشار خبراء السُميات إلى وجود علاقة بين استخدام المبيدات أو حتى التعرض المهنى لها وتناول المتبقيات المتوقعة عملياً منها فى الغذاء وبين الإصابة بأمراض السرطان فى الإنسان.
الغريب في الأمر انه حين قيامنا بالبحث والمقارنة عن المبيدات المتداولة فى الأسواق المصرية والاخرى الموضوعة على قائمة المبيدات المحظورة، اكتشفنا ان هناك بالفعل مبيدات محرمة دوليا وفى نفس الوقت يسمح بدخولها البلاد واستخدامها ومنها مبيد «الكابتان» ومكون من المادة الفعالة التى تحمل نفس الاسم، كما اكتشفنا خلال التحقيق وجود مبيدات تحرمها مصر ولكنها مازالت متواجدة فى الاسواق وتدخل البلاد بطريقة رسمية منها مبيد «التيمك» المحظور عالميا.

الحقيقة المرة
بدأنا رحلة البحث عن الحقيقة بجولة فى بعض قرى المنوفية.. ذهبنا الى قرية كفر منصور التابعة لمركز اشمون منوفية وكذا قرية أبو يوسف، تحدثنا مع عدد من الفلاحين قال شريف عبد الرءوف والذى يملك مساحة من الأراضى الزراعية إن الفلاحين الذين يشاركونه فى الارض يعانون أشد المعاناة عند شراء المبيدات والاسمدة، لكون اغلبها مغشوشة، نتيجة تحايل اصحاب محلات بيع المبيدات عليها، فعلى سبيل المثال سعر مبيد «كوراجين» والذى يكافح الحشرات القارضة والندوة المبكرة بثمار البطاطس يبلغ 80 جنيها للكيس الواحد، بينما يبلغ سعر الكيس المقلد عشرين جنيها وبالطبع ليس له نفس مفعول المبيد الاصلى، فحين يذهب الفلاح لصاحب محل مبيدات ويطلب منه هذا المبيد يخدع الفلاح ويعطيه المبيد المقلد بسعر الأصلى، ولا يعرف الفلاح ذلك إلا بعد رش المحصول ويعلم ان هذا المبيد لم يؤثر على الآفة او الحشرات، واضاف شريف انه من المفترض على الفلاح حين يعلم ان بائع المبيدات خدعه ألا يذهب اليه مرة اخرى، ولكن هناك اساليب كثيرة يمارسها اصحاب محلات المبيدات على الفلاح تجبره بان يشترى من عندهم مرة اخرى، منها على سبيل المثال ان الفلاح يشترى المبيد «شكك» على ان يدفع ثمنه بعد جمع المحصول، لأنه لا يملك المال لشراء المبيد قبل ذلك الوقت، لذلك رغم ان عدد محلات المبيدات كبير فى مركز اشمون إلا اننا لا نجد سوى محل او اثنين يثق فيهما الفلاح عند تعامله معهما، اما الباقى فيستغلون جهل الفلاح بالمبيدات ويعطونه أى شىء بهدف التجارة وجنى المال.

معاناة لا تنتهي
ويحكى عوض السيد عبدالله مزارع معاناته مع المبيدات قائلا: عانيت وخدعت كثيرا من محلات المبيدات، حيث قمت بشراء شيكارة سماد البوتاسيوم وسعرها 200 جنيه، وفوجئت بأنها لم تكن المستوردة رغم ان شكلها الخارجى نفس شكل الشيكارة الاصلية، حيث كانت مخلوطة ببودرة صفراء اللون وجير وبالتالى لم يؤثر على الآفات بالمحصول بل تسبب فى إتلافة بسبب كمية الجير المخلوطة به، مشيرا الى ان هذا حال جميع الفلاحين، سألته وماذا عن المبيدات الاكثر سمية، فقال انه يستخدم مبيدات اكثر سمية مثل مبيد «اللانيت» والذى يقضى على آَفة «الحمرة» بنبات الباذنجان ولكنه يضع فى اعتباره موعد جمع المحصول بعد رش هذا المبيد، مؤكدا انه لا يجنى الباذنجان الا بعد اسبوع من رشه حتى يختفى أثر المبيد لانه بيأكل من هذا الباذنجان قبل ان يبيعه للناس مضيفا: «حرام علي أرش مبيد عارف انه سام وأجمعه قبل اختفاء اثره فى المحصول وأبيعه للناس وأشيل ذنبهم».
وحول استخدامهم للمبيدات الأكثر تأثيرا على صحة المواطنين من غيرها من المبيدات الآمنة نسبيا مثل مبيد «الملاثيون، اكتابتون، دايمثويت، كلوروبيروفوس، فينتروثيون» قال حسين ناجى - فلاح يعمل باليومية - ان مثل هذه المبيدات ندرك جيدا انها سامة وتؤثر على الانسان اذا ما تناول الفاكهة او الخضار، لذلك نقوم برشها على الزراعات قبل حصدها لفترة لا تقل عن 3 اسابيع إلى 3 اشهر على حسب نوع المبيد، مشيرا إلى ان الفلاح هو اول شخص يأكل ما يجنيه، مضيفا: لكن هذا لا يمنع ان هناك فلاحين معدومى الضمير، حيث يقوم بعضهم عندما يكون زارعا لفاكهة معينة ويرى ان سعرها مرتفع فى السوق برشها بمبيد نطلق عليه فى الفلاحين «الفياجرا» فى ظلام الليل وتكون فى الصباح قد نضجت فيحصدها ويبيعها فى السوق وتباع مثل هذه المبيدات فى السوق السوداء، وأكد حسين ان ثقافة الفلاحين محدودة فيما يتعلق بالمبيدات لذلك يتمنون ان تعود وزارة الزراعة مرة اخرى لتكون مسئولة على توزيع المبيدات للفلاحين عن طريق جمعيات التعاون الزراعى كما يحدث فى الاسمدة، وبذلك يكون الفلاحون على ثقة بأى نوع مبيد توفره بدلا من ان يكونوا تحت رحمة أباطرة المبيدات من القطاع الخاص الذى لا يهدف الا لتحقيق الربح الوفير بصرف النظر عن صحة الفلاح.

الفلاح الفصيح
التقينا بالحاج عاطف خريص ويمتلك عدة افدنة ويؤجر بعضها مزروعة بانواع مختلفة من الفاكهة والخضراوات، و يطلق عليه الفلاحون فى القرية الفلاح الفصيح، لخبرته الكبيرة فى مجال المبيدات والاسمدة المصرح منها بالاستخدام والمحظورة، قال إنه يتمنى ان تصبح وزارة الزراعة مسئولة مرة اخرى عن بيع المبيدات عن طريق جمعيات التعاون الزراعى بكل قرية اسوة بالاسمدة، لان هذا الامر فتح الباب للإتجار بصحة المواطنين وفى مقدمتهم الفلاح المظلوم، فالمبيدات الاصلية والمستوردة والتى لها نتيجة فعالة على الآفات والحشرات، مشيرا إلى أن أسعارها مرتفعة مقارنة بما يجنيه الفلاح من كل زرعة، واذا وجد فلاح يمتلك ارضا وسط أراض كثيرة يقوم بشراء مبيدات عالية الثمن فجيرانه لا يستطيعون ذلك، وبالتالى اذا قام الفلاح برش هذا المبيد عالى السعر فى زراعته لمقاومة الآَفات، لا تمر ايام قليلة إلا وتعود هذه الآفات مرة اخرى لسبب بسيط هى ان زراعات جيرانه الفلاحين لا يتم رشها بنفس المبيد الذى يستخدمه وبالتالى تظل تلك الآفات موجودة بل وتنتقل مرة اخرى الى ارض هذا الفلاح «كأنك يا أبوزيد ماغزيت».
وأضاف ان الفلاح ليس لديه الوعى الكافى بالمبيدات وماهو مفيد او ضار منها، ويقع تحت رحمة اصحاب محلات المبيدات الذين يقنعونه بالحجج والاساليب الفارغة بشراء مبيد عن آخر وفى النهاية يكتشف انه خدع لان المبيدات التى اشتراها لم تؤثر على الآفات ليس هذا فقط وانما ايضا ضرت بمحصوله.

مبيدات مقلدة
وخلال الحديث عرضت على الحاج عاطف قائمة بأنواع المبيدات الأشهر والاكثر استخداما من قبل الفلاحين والمزارعين والتى اعدها اساتذة الزراعة، وتحمل اسماء المبيدات التقليدية واخرى قليلة المخاطر وبدائل مبيدات فسفورية، ليخبرنا بأى الانواع الاكثر استخداما، حيث شرح لنا: ان المبيدات التقليدية والاكثر سمية منها «الملاثيون، اكتابتون، دايمثويت، ميثوميل، كلوروبيروفوس، فينتروثيون» يستخدمها لمكافحة الحشرات القارضة والذبابة البيضاء وصانعات الانفاق والمن والتربس، وانه يراعى فترة رش هذه المبيدات قبل جمع المحصول ،مؤكدا انها تؤثر بشكل كبير على الانسان اذا تناول الثمار بعد رشه بهذه المبيدات فى ايام قليلة، مشيرا الى أن اسعار بعض هذه المبيدات مرتفعة جدا على الفلاح حيث ان الكثيرين لا يستطيعون شراءها ويعتمدون على مبيدات بديلة بأسعار اقل وتكون عبارة عن مجموعة من المبيدات مخلوطة مع بعضها البعض ولكن مفعولها ليس بنفس تأثير هذه المبيدات بعضها يأتى من الصين والآخر ينتج فى مصانع بير السلم، كما ان هناك اسماء لمبيدات كانت تستورد من الخارج ولم تعد كذلك فى الوقت الحالى واصبح تصنيعها محليا وبالطبع ليست بنفس قوة المبيد المستورد رغم انها تحمل نفس الاسم منها على سبيل المثال «مبيد سباركل» ويطلق عليه فى السوق المحلية اسم «سايبركل» كما ان بعضها مكتوب على اللاصق الموجود عليها فترة الأمان التى تحدد موعد جنى الثمار بعد رشه بهذا المبيد، وبعضها الآخر لا يوجد عليه، وايضا مبيد «لانيت» - وهو محظور دوليا - من المبيدات التقليدية شديدة السمية ويصل ثمنه إلى 300 جنيه.. اصبح منه مقلد موجود فى السوق والمثير ان سعره بنفس سعر المبيد الأصلى، وبالطبع لا يستطيع الفلاح التفريق بين النوعين لأن الكيس المقلد الذى تم انتاجه فى مصانع بير السلم يكون بنفس شكل الكيس الاصلى.
وفيما يتعلق بمبيد «التيمك» والمحرم دوليا ايضا، قال الحاج عاطف إن تجار المبيدات يستوردونه.. وأضاف الحاج عاطف انه يزرع فاكهة الكمثرى وهذا النبات تهاجمه آفة تسمى «اللفحة النارية» وهى بمثابة مرض السرطان للانسان وتبدأ فى الظهور من 20 مارس الى 20 ابريل من كل عام حيث تتسبب هذه الآفة فى حرق الزهور وفروع الشجرة التى قد يصل عمرها الى 10 سنوات ، وهذا الآفة لا يقضى عليها سوى مبيد يسمى «استارنر 20%» ومادته الفعالة به تسمى «اوكسلينك اسيد» وكانت تنتجه احدى شركات الاسمدة والكيماويات الزراعية المملوكة للقطاع العام منذ عام 1998 وبعد ان تم خصخصتها واغلاق بعضها توقف انتاج هذا المبيد منذ عام2011، حتى الشركات الخاصة أوقفت استيراده من الخارج او انتاجه فى مصر والسبب هو ان هذا المبيد ينتج لثمار الكمثرى فقط، لذلك اوقفت الشركات الخاصة التعامل معه «لأنها مش بتكسب منه»، وهذه معاناة كبيرة بالنسبة لنا رغم محاولاتى مع وزارة الزراعة لتوفيره الا انها فى النهاية كانت تحيلنى الى التعامل مع نفس الشركات الخاصة وتضعنى تحت رحمتهم ، فلم يعد امامى سوى استخدام بديل وهو عبارة عن مضادات حيوية بيطرية منها «استربروك» ولكن نتيجة مكافحته ضعيفة وليس امامى شىء آخر، وأكد ان هناك مبيدات محظور استخدامها ومحرمة دوليا موجودة ويلجأ اليها بعض الفلاحين لعدم وجود بديل عنها واذا توافر فانه مكلف جدا.

محرم دولياً
التقت «بوابة أخبار اليوم» بفلاح - رفض ذكر اسمه - قال إنه يزرع العنب فى ارضه ودائما يصاب «بدودة النيماتودا أو الثعبانية» وهى تسبب عفن بجذور نبات العنب، واضاف انه يستخدم مبيدات ويعلم جديا انها تسبب مرض الفشل الكلوى ورغم ذلك يضطر الى استخدامها كمبيد «التيمك» - وهو محرم دوليا - والذى يحتوى على المادة الفعالة «ديكارب20%»، واكد انه لا يوجد بديل أمامه من مبيدات اخرى لاستخدامها فى مكافحة هذه الآفات، فيضطر الى شرائها من السوق السوداء واستخدامها وتأتى بنتيجة سريعة فى المكافحة، موضحا انه يتم تهريب هذا المبيد فى براميل زنة الواحد منها25 كيلو جراما ولأنه محظور يصعب علينا ايجاده فى السوق ولكن هناك تجارا يوفرونه للمزارعين بطرق غير شرعية، حيث يقوموا بإدخالة الى مصر على انه مادة تستخدم فى دباغة الجلود، وتستخدم هذه المادة كمبيد زراعى، وأكد ان التجار يوزعونها على المزارع الكبيرة ذات التربة الصفراء لمكافحة «دودة النيماتودا» التى تظهر اكثر فى هذه المزارع بسبب تربتها، على عكس التربة الطينية التى نادرا ما تظهر هذه الدودة فيها.. الخطير فى الأمر ان هذا المبيد تبقى آثاره فى التربة لعدة اعوام وكذلك فى النباتات.. وأكد ان هناك بدائل من المبيدات لمكافحة هذا النوع من الاَفات ولكن سعرها مرتفع جدا حيث يصل الى 1500 جنيه للعبوة الواحدة، قائلا: هو أنا معايا كام ألف ونصف علشان اشترى الدواء ده، وهو العنب بيجيب كام أصلا علشان اشترى مبيد بهذا السعر».. واكد عدم وجود رقابة من قبل وزارة الزراعة المتمثلة فى المرشدين الزراعيين على الفلاحين فيما يتعلق بأنواع المبيدات التى نستخدمها، وكان اكبر خطأ من الدولة هو «شيل» وزارة الزراعة يدها من موضوع المبيدات ليصبح الفلاح فريسة للتجار الجشعين.
وأكد أن هناك مبيدات مغشوشة يستخدمها الفلاح دون دراية، وللأسف هذه المبيدات لا تفيد فى مكافحة الآفات ليس هذا فقط، انما للأسف تضر الحشرات النافعة صديقة الفلاح وتقضى عليها ومنها «أسد المن، حشرة أبو العيد» وهى تقضى على الذبابة البيضاء، مؤكدا انه بسبب هذه المبيدات المغشوشة والمقلدة ودخول انواع غريبة من بذور الفاكهة والخضراوات الى مصر، فلن نجد بعد عشر سنوات أى نوع من الفاكهة او خضار له طعم او ريحة او لون، واكبر مثال على كلامى هذا اختفاء نبات «الكانتلوب» الذى كنا نطلق عليه قبل 15 عاما «الشهد» بسبب مذاقه الجيد ورائحته التى كانت تنبعث منه حتى قبل حصاده، والذى اصبح الآن قد يمر العام ولا احد يرغب فى شراء ولو كيلو واحد منه.