مع حلول شهر شعبان حتي أواخر شهر رمضان، يطيب لي قراءة الكتب الدينية والفلسفية والصوفية..
إنها محاولة للهرب إلي عالم العقل والروح، والبعد عن عالم المادة الذي طغي علي كل شيء، وأصبح تفكير الناس في الهموم المادية، وكأن الحياة خالدة.. مع أننا راحلون عنها إلي عالم تكون كل تقاليد الأمور بيد الله.
وقد وجدت في مكتبتي كثيرا من الكتب المهمة، ومنها كتاب «القصة القرآنية» الصادر عن دار الهلال لمؤلفه المفكر والسياسي والأديب الكبير فتحي رضوان.
وقد أخذت أقرأ في هذا الكتاب وكأنني أقرأه للمرة الأولي، واسترعي انتباهي جمال أسلوبه، وقوة حجة المؤلف وهو يستعرض آراء قدامي المفسرين والمعاصرين والمستشرقين ليبرز لنا عظمة القرآن الكريم، وجمال أسلوبه وإعجازه، وقدرته الفائقة في إبراز دور أنبياء الله الكرام في مختلف العصور، وكيف كانوا نور هداية للناس، ويبينون لهم الطريق السليم لينالوا ما فيه خيرهم في دنياهم وأخراهم.
وقد تذكرت لقاءاتي مع هذا الأديب السياسي الذي جمع بين الأدب والسياسة، كما أنه كان وزير دولة في عهد الرئيس جمال عبدالناصر ثم تولي وزارة الإرشاد «الإعلام». لقد سألته عن العلاقة بين الأدب والسياسة؟
يومها سرح بخاطره قبل أن يجيبني بما ملخصه:
ـ يجب أن تخبرني أولا ما هو المقصود بالسياسة؟
وقال: فإذا كان المقصود بالسياسة تغيير الأوضاع السيئة إلي أوضاع أحسن، ومكافحة أنظمة وأشخاص يسيئون إلي المجتمع.. فالأدب هو أداة السياسة الأولي في هذا السبيل. فهو طليعة الإصلاح.. والأدباء هم المبشرون بالتطور والمؤمنون بالحرية.. ووسيلتهم الأولي التفسير بالفكرة.. بالكلمة بصورها المختلفة: الحديث، الخطبة، القصيدة، وكل ما يثير خواطر الأفراد ثم الجماهير ويجمعهم علي الرأي الجديد ويستثيرهم ضد النظام القائم. ويخرج من ذلك بأن السياسة والأدب توأمان أو لعلهما شيء واحد يحمل اسمين.
فالأنبياء وهم الصورة العليا للعمل السياسي بالمعني الذي اتفقنا عليه، كان أداؤهم دائما قدرة علي البيان تجعلهم في الذروة.. وقدرتهم علي إنتاج أدب رفيع يتمتع بموسيقي خلابة وثراء في خلق الصور الأدبية يعجز خصومهم من اللحاق بها أو محاكاتها.
ولا يمكن تصور أديب حتي ولو كان مؤمنا بفطرية الفن للفن يقول كلاما دون أن يقصد به التأثير في قلوب الناس وعقولهم إنه يريد أن يؤثر في المجتمع، ومادام المجتمع قد تأثر، فقد حق لنا أن نقول إن حدثا سياسيا قد وقع. فالتطور في المجتمعات هو هدف السياسة.. أي أوضاع الحكم وأساليب التفكير عند الحاكمين أرادوا أو لم يريدوا. تذكرت هذه الرؤية للكاتب الكبير، وأنا أقرأ كتابه «القصة القرآنية».. فهو يحدثنا عنها وعن مراميها، وهي أنها تبين بأسلوب مؤثر بليغ، أن عقيدة التوحيد هي العقيدة الغالبة، وأن رسل الله مهما لقوا من العنت وتحملوا من الشدة هم المنتصرون.. وأن تلك القصص جعلتنا نطل من خلالها علي حياة هؤلاء الأنبياء، وأساليب دعوتهم، وردود فعل أقوامهم.. كما ترسم لنا صورة حياة المجتمعات التي عاش فيها أنبياء الله ورسله، وما شرعوه من قوانين وما سنوه من أحكام، ومحاولاتهم تغيير هذه المجتمعات لعبادة الله وحده، ونبذ ما سواه من عبادات بعيدة عن منهج السماء. ويحدثنا المؤلف عن القصة القرآنية، وكيف ارتقت بذوق العرب والمسلمين.. وكيف ارتقت أساليب البيان عندهم، ومهدت لهذه الآثار الضخمة من الكتب والموسوعات ودواوين الشعر. ويحدثنا عن خصائص القصة القرآنية وأنها تحمل هذه السمات:
أولا أن القرآن الكريم لا يعترف بالشخصيات التي يدور حولها الكلام في القصة.
ثانيا: أنه يجرد كلامه تعالي من الزمان والمكان.
ثالثا: أنه يصطنع أسلوب الايجاز التام الذي لا تعرف له نظيرا في آثار الأمم الأخري مهما سمت مكانتها البيانية.
رابعا: وحدة الغاية في كل ما ورد في القرآن من أنباء وأخبار وأحاديث وذكره في أسلوب في غاية الرقة والشفافية.
ويوضح لنا من خلال القصة القرآنية ما كانت عليه أخلاقيات هؤلاء الأنبياء والرسل، ودعواتهم لعقيدة التوحيد، ودفع الناس لسلوك الأخلاقيات الرفيعة التي تليق بالإنسان أو ما ينبغي أن يتخلق بها البشر.
إنه يحدثنا عن معاناة هؤلاء الأنبياء وهم يحثون الناس للسير في الطريق المستقيم، حتي يكون الإنسان في ظل الرسالات السماوية صاحب بصيرة.
ويورد قوله تعالي: ـ «ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعا». ثم قال تعالي: «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة». إن كاتبنا الكبير فتحي رضوان، يشرح لنا كيف شق الإسلام طريقه إلي العقول والقلوب، رغم مكائد أعدائه من اليهود الذين ركبت في قلوبهم شدة الخصومة واللدد والعداوة، ولهذا انصرف أكثر جهد الرسول بالرغم مما يقيمه يهود المدينة من حجج ضد الدين الجديد وما يروجونه بين العرب في المدينة ومكة وما حولهما من مغتربات، وما يبعثون به إلي الرسول من أسئلة لا يقصدون منها إلا المكايدة، وإظهار عجز الرسول، وجهله بما سبق من تاريخ وتعاليم الأديان، وما وقع للرسل من أحداث ووقائع، ولهذا كان طبيعيا أن يمتليء القرآن الكريم بالآيات التي تروي تاريخ أنبياء بني إسرائيل بما يتفق مع العقيدة الإسلامية القائمة علي التوحيد، وعلي تنزيه الله سبحانه وتعالي من كل شبهة من شبهات الشرك أو الوثنية أو الضعف الإنساني، وكان مقتضي قيام هذه المعارك المتصلة أن يرد اسم نبي اليهود موسي عليه السلام بهذه الكثرة.
و.. ما أجمل الابحار في هذه الدراسة العميقة الممتعة التي تزيدنا علي حد تعبير المولف شغفا بالقصة القرآنية وحبا لتلاوتها وتذوقا لبلاغتها.
الحب المجنون
الأديب الروسي العظيم تولستوي من أعظم أدباء العالم، ومن منا لم يسحره جاذبية أسلوبه، وقدرته علي تصوير بشاعة الحرب، وجمال السلام، كما صور ذلك في رائعته الحرب والسلام.
ومن منا لم يقرأ قصة «أنا كارنينا» ولم يسحره قدرته علي رسم المشاعر الإنسانية في لحظات الأمل والألم، وعند الحب والبغض.
ولكن من يقرأ سيرة حياة هذا الأديب الكبير، يعرف كم شقي من غيرة زوجته التي كانت تحبه وكان يبادلها الحب، ولكن حبها اتسم بالغيرة القاتلة حتي أنه أطلق علي هذا الحب.. الحب المجنون. لقد شقي بزواجه.. كما شقي سقراط بزواجه.. ولكن الفيلسوف اليوناني سقراط كان يري أن الزواج مهم في كل الأحوال، حتي لو فشل فإنه سيحول الزوج إلي فيلسوف.
وأصبح سقراط فيلسوفا..!
ولكن حب تولستوي لزوجته، وغيرة الكونيس تولستوي القاتل لزوجها جعلت من حياته جحيما لا يطاق.. فهي لم يعجبها أن زوجها الثري كان يتعاطف مع الفقراء والمساكين، وكان يزعجها أن تراه يعمل مع هؤلاء الفقراء في حقله!
وقد أقلقه غيرة زوجته القاتلة، وتدخلها في أمور حياته، وكانت حجر عثرة في سبيل تحقيق طموحه الأدبي، حتي أنه ضاق بها ذرعا، وقرر أن يترك لها البيت، وأن يعيش بعيدا عنها، حتي تعود إلي رشدها، وأرسل لها رسالة عميقة، تفيض بالنصائح التالية حتي تحتفظ ببيتها وزوجها.. وهذه الرسالة قرأتها في كتاب «الحب والعبقرية» لإبراهيم المصري.. والرسالة طويلة.. انه يقول فيها فيما قال:
.. إنك إن أطلقت الرجل كسبته.. وإن حررته أنقذته، وإن تففت عنه ولو لفترات سموت به وقويته، وشجعته وأغريته بعظائم الأعمال.. فاطلقيني من ربقة حبك المجنون وإلا أطلقت نفسي.
طهريني من لوثة غيرتك الوحشية وإلا طهرت نفسي.
مكنيني بتضحيتك في سبيل أولادك وبيتك من أن أضحي أنا الآخر ببعض قوتي وشبابي في سبيل إنقاذ نبوغي وتوكيد عبقريتي وخدمة العالم.
ويقول لها: إن مجد المرأة لا يتمثل في حب الرجل بل في استخدام حبها وحنانها لخلق الرجل..
فاخلقيني بحبك بدل أن تقتليني
أنقذي البقية الباقية من قوتي بدل أن تجهزي عليّ، لكنك لو استرسلت في غيك، وأبيت إلا أن تبقي شيطان حبك وغيرتك فسيثبت لك الزمن أن في مقدوري أن أدافع بمفردي عن شخصي.. وأدافع بمفردي عن عملي، واستغني آخر الأمر عن حبك كما استغنيت أنت عن التفكير في مصلحتي.
ونصحها في هذه الرسالة أن تتعقل في حبها حتي لا تخسره إلي الأبد، ولكنها لم تستمع إلي صوت العقل، وظلت علي عنادها، فحطمته..!
لقد خرج من منزله هائما علي وجهه، واتجه صوب إحدي محطات السكك الحديدية.. وفي الصباح وجدوه قد فارق الدنيا!
كلمات مضيئة
الدنيا مثل مال أصبته في منامك، فلما استيقظت لم تجد معك شيئا.
محمد الباقر