إنها مصر

حب مصر ليس بالشعارات !

كرم جبر
كرم جبر

نزار قبانى له بيت شعر يقول فيه «مصر وجدت نفسها فى أرواح مقاتليها وليس فى حناجر مغنيها»، وكان ذلك بعد نصر أكتوبر، وهو لا يقصد بالطبع الفنانين والمطربين، ولكن قناصة الحب الكاذب، الذين يرددون شعارات حب مصر دون أن يعرفوا معناها، الذين إذا قلت لهم تبرعوا بجنيه من أجل مصر، قدموا صكوك ديون قديمة، وقالوا «إحنا عايزين تسهيلات»، رغم أنهم يمتلكون المليارات من خير مصر.

حب مصر أراه فى عيون كثيرة صادقة، تعمل فى صمت وتعرق وتشقى وتتعب، دون غناء أو خطابة، ولا تعرف كاميرات الفضائيات الطريق إليهم، ويتجسد الحب الحقيقى فيمن يتحملون من أجل وطنهم، دون أن يطلبوا الثمن.

حب مصر ليس بالشعارات بل بالتضحية، وليس بالخطب الحماسية بل بالمواقف الرجولية، وكلما سمعت «شخص ما» يسرف فى الحب الكاذب، أشعر أنه «قناص» ويمهد للفوز بغنيمة.

كنت أرى رجل أعمال شهيرا فى الثمانينات جذبه بريق السياسة، فدخلها من «باب الرشوة» لكبار المسئولين فى الحزب، ووطد مكانته بالبكاء العنيف كلما سمع أحدا يخطب ويذكر اسم مصر، «يا حبيبتى يا مصر»، لكنه لم يستطع الصمود أمام مطالب «السنيدة»، وتكالبت عليه ديون البنوك والمحاكم، وهرب إلى أمريكا، ومات هناك، بعد أن أسود فى وجهه حلم العودة إلى مصر.

حب مصر ليس معناه الكفر بها كلما واجهتها أزمة أو مشكلة، وإنما بالقدرة على العمل والصبر حتى تصل البلاد إلى بر الأمان.
حب مصر بأن تمتد لها الأيادى وقت الشدة، ولا يتصدر المشهد من يستثمر عرق الناس ويستغل معاناتهم، ويتمادى فى جشعه وطمعه دون وازع من ضمير.

كثيرون خاضوا تجربة الهروب إلى الخارج فى أعقاب أحداث يناير، إلى دول أخرى، ولكنهم لم يتحملوا البعاد، لأن ما يجدونه فى مصر يصعب أن يجدوا مثله فى أى مكان فى العالم.

•••

المحروم من الغنى يتصور أن سعادته فى امتلاك الأموال، ولا يعرف أن ثمنها قد يكون حرماناً من أشياء لا تعوضها الأموال، وأيهما أفضل ثرى لا يستطيع أن يبلع الطعام، أم فقير يهضم الزلط؟

الثروة ليست أرصدة البنوك ولا السيارات ولا الفيلات، وإنما المبادئ والمثل والقيم، التى تغرسها فى نفوس أولادك، فتحقق لهم السعادة والطمأنينة وراحة البال، وتحكى لنا الحواديت عن أسر كان لديها مال قارون، تركته لولد فاسد، فضيعه فى الملذات والمنكرات، وعن أسر فقيرة أورثت أولادها الأخلاق، فأصبحوا رجالاً صالحين يفخر بهم المجتمع.

الثراء الحقيقى هو الأخلاق وليس الفلوس، والكلمة الطيبة أكثر مفعولاً من التعالى والتكبر، والتعقل وليس التهور، وإذا أكلت «لقمة» اهضمها قبل أن تبتلع غيرها.