«كرامات» قصة قصيرة للكاتبة هبة يوسف

الكاتبة هبة يوسف
الكاتبة هبة يوسف

هبت نسمات عطرة داعبت وجه أم ياسمين من نافذة الحافلة ، استقبلتها بتنهيدة ثم التفتت بجانبها تتأمل بأسى ابنتها ياسمين وهى ترقب الطريق الدائرى الذى تأكله الحافلة بهدوء .

 لقد كبرت الفتاة اليتيمة دون زواج، وهى تمرض وتخشى دنو أجلها وليس لياسمين من يرعاها، فالجميع يخشاها لجنونها، ثم استرسلت فى خواطرها ، منذ أربعين عاما حين تزوجت وحياتها بسيطة بلا منغصات ، تزوجت الأسطى مرسى ابن عمها، وسكنت معه ومع حماتها، زوجة عمها الحنونة ، في باب اللوق، ومضت بهم الحياة مستورة ، فالأسطى مرسى يمتلك ورشة تصليح سيارات ، وماهر في عمله، يتقى الله في معاملاته مع زبائنه وصغار الأسطوات الذين يعملون تحت يده.

كان سيد فى بيته صارماً حتى أنجبت له ياسمينا فانحالت صرامته لوداعة وحنان آسِر، خاصة حين ترتمى الصغيرة بين ذراعيه فيغرق خديها الورديين بقبلاته، ثم تركها ورحل بعد عشرة أعوام، وبعد عشرة أعوام أخرى رحلت أمه، وتولت رعاية الورشة مع الأسطوات العاملين بها ووحيدتها الحبيبة، ومضت الحياة هادئة راضية حتى بلغت ياسمين سن الزواج ، وبدأت عقدتها بأن يتم الاتفاق والقبول والتراضى وتعد كل الترتيبات مع العريس ثم قبل الزفاف بيومين يموت ، تصدمه سيارة أو لا يحضر أو أى سبب آخر، فتنفض الزيجة ولا تتم قط ، حتى مر عشرون عاما وجُنت الفتاة ،

لقد تزوج كل فتيات العائلة كلهن، وكل جاراتها من حولها وهى الوحيدة التى لا تتم لها زيجة، رغم كثرة خطابها، وصفعها المجتمع السقيم بلقب عانس، أضحت وحيدتها وبنت قلبها عانساً، ثم جفلت على صرخة حادة أطلقتها ياسمين كمن تلوم أمها على خواطرها، جفل منها الركاب، فتلفتت أم ياسمين حولها وغمغمت بضعف وأسى:- معلش أصلها تعبانة شوية.

 وبعد أن أطلقت ياسمين صرختها الحادة التي تطلقها بلا مقدمات كلما طال صمتها، عادت تنظر من الشباك وهى غارقة فى ملكوت آخر خاص بها، حتى سقطت طرحتها عن رأسها وبدا شعرها أسود حريرى الملمس، فلمست أمها ذراعها برفق وبادرتها :- طرحتك وقعت غطى شعرك .

فالتفتت إليها، أبعدت يدها بعنف وصرخت في وجهها:- سيبينى فى حالى.

 فارتجفت دقنها ومشى الدمع بعينيها، تبحث في وجهها المرهق الشاحب وعينيها الذابلتين عن طفلتها الجميلة الوديعة، والشابة المرحة المحبة للحياة ، وكل من تقدم لخطبتها ولكن الزواج لا يتم قط ، ولوم الناس وشماتتهم بها ، فأصاب عقلها تلك اللوثة وقيل لها إنها محسودة ولابد أن تتصدق بنية فك كربها.

وتصدقت للفقراء كثيرا والزيجات تنفض من حولها بلا سبب ، وقال آخرون إن هناك من عمل لها (عمل) سحر لها بوقف حالها فى الزواج وتغلبها المرارة وتصيح :- ومين هيأذى بنتى دى بنت طيبة عمرها ما زعلت حد ؟

ـ مش شرط يمكن واحد عشقها ومش طايلها !

ـ ربنا يخرب بيته البعيد هو وكل اللى بيأذى الناس

ثم تنبهت ليد راكبة سمراء جالسة بجانبها تهزها ، أشارت لها على راكب يجلس بجانب السائق ممتلئ الجسد، كبير الرأس، هتف بها :- يوم الجمعة بعد الصلاة فى ضهر الجامع الكبير وديها لأبونا، هو معروف هناك وتخف من اللى هى فيه ، أبونا راجل طيب بيعمل كده لوجه الله ومش بياخد ولا مليم.

فترددت قليلاً فبادرتها بحزم:- وديها يا حاجة حرام تسيبيها تتعذب كده.

 فتطلعت له بأمل ثم علقت عينيها بياسمين وقد أعتزمت أمراً.