المؤرخ محمد عفيفى:الرواية الشيقة بوابة القارئ لحب التاريخ

مهمة المؤرخ هى الوصول للشارع وليس للأكاديميين

 د. محمد عفيفى
د. محمد عفيفى

كل رواية هى فى الحقيقة تاريخ حتى لو لم يقصد الكاتب

لا أفكر فى المبيعات وأحلم بصناعة الوثائقيات

سامح فايز

على الرغم من الجدل المتجدد كل عام عن العلاقة بين الرواية والتاريخ أو الدراما والتاريخ يقف المؤرخ محمد عفيفى وحده منذ أكثر من عقدين وهو يحارب فى ميدان علمى يجهله الكثيرون، قراء ومتخصصون، فهو أول من أدخل مصادر التاريخ غير التقليدية على طلبة الدراسات العليا بالجامعة..

د. محمد عفيفى رئيس قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة القاهرة، والأمين العام السابق للمجلس الأعلى للثقافة، يعتبر أول من قرر دراسات السينما والمسرح والرواية على طلابه فى قسم التاريخ بكلية الآداب، وتعامل معها باعتبارها وثيقة تاريخية، بل وناقش قبل أعوام رسالة للماجستير لأحد الدارسين، تناولت مسرح الستينيات كوثيقة تاريخية. 

يشرح دكتور محمد عفيفى تلك المسألة فى مقابلة مع «أخبار اليوم» وضح من خلالها أن الكتابة التاريخية تغيرت فى العقود الأخيرة عالميا: «لم تعد مهمة المؤرخ أن يكتب لمجتمع مغلق من الأكاديميين، أصبحت هناك فكرة المؤرخ الذى يصل بالتاريخ للشارع، للمواطن العادي، ومن هنا حدث تطور كبير فى الغرب، فالكتاب الأكاديمى لم يعد الوسيلة الوحيدة لنقل التاريخ، أصبح هناك البرامج الإعلامية، الصحافة، حتى إن هناك مؤرخين تحولوا إلى إخراج الأفلام الوثائقية والتسجيلية، وذلك ساهم فى التوسعة من دائرة الثقافة التاريخية».

اقرأ أيضاأصل الحكاية| سر الدبلة الدائرية لدى الفراعنة: رمزية الخلود والأبدية

لم يقف عفيفى عند عتبة تقديم المصادر غير التقليدية كنافذة للتاريخ، بل مارس إحداها أيضا، وكتب الرواية التاريخية، أو ما يحب وصفها بين قوسين بما يسمى الرواية التاريخية، وعن أسباب اللجوء إلى ذلك النوع من الكتابة يقول: «هناك مجموعة من الأسباب دفعتنى لكتابة الرواية التاريخية: أولا، حلم كتابة رواية تاريخية كان حلما قديما فى عقلى وكنت دائم التأجيل لذلك الحلم، مع الوضع فى الاعتبار أن عشقى للتاريخ منذ الطفولة والشباب نشأ بسبب قراءة الروايات التاريخية وأيضا الأفلام التاريخية، فهما يستطيعان تحريك الخيال لدى الشباب ويدفعانك إلى طريق قراءة التاريخ، فالكتب المدرسية بشكلها المعروف أبدا لن تكون دافعا لحب التاريخ».

يضيف محمد عفيفي: «ثانيا، نحن بالفعل نعيش عصر الرواية، والقارئ والجمهور يحب الرواية أكثر، وهى أيضا الأكثر رواجا، فمن خلال الرواية تستطيع أن تحبب القارئ للتاريخ أو تعمل على توسعة دائرة قراءة التاريخ».

يستكمل عفيفي: «ثالثا، دائما يلاحظ وجود طفرة كبيرة فى الكتابة فى هذا المجال الأدبى فى المنطقة العربية فى العقدين الأخيرين، وهى مسألة مرتبطة بأنه من المعتاد فى لحظات التحولات الكبرى فى تاريخ الأمم أن يعود الناس إلى التاريخ لمعرفة الأسباب التى أوصلتهم إلى المرحلة الحالية ودائما فى تلك اللحظات والطفرات والثورات والانكسارات والانهزامات الاهتمام بالتاريخ يظهر بشكل كبير جدا وبشكل بارز فى الدراما والرواية أكثر حتى من كتب التاريخ الأكاديمية محدودة الجمهور».

إنتاج استثنائى

المؤرخ محمد عفيفى على مدار تاريخه الأكاديمى قدم انتاجا معرفيا مختلفا وغير معهود فى الحقل الأكاديمي، فأصدر كتابا أدبيا رصد من خلاله تاريخ حى شبرا وتحولات المشهد الاجتماعى المصرى فى النصف الثانى من القرن العشرين من خلال حكايات شبرا وانتقال ذلك الحى من حالة الكوزموبوليتان وقدرته على احتواء جميع الأعراق والجنسيات وصهرها فى الشخصية المصرية إلى حى اختفت عنه تلك الروح أو كادت، كتاب «شبرا اسكندرية صغيرة فى القاهرة» والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب لم يكن الأخير، بل أصدر كتبا فى السينما والأدب تضمنت دراسات علمية مهمة عن السينما كوثيقة تاريخية.

لم يتوقف عفيفى عند ذلك، قائلا:» كنت أحلم بصناعة أفلام وثائقية، ليس فقط على مستوى الكت ابة لكن على مستوى الإخراج أيضا».
يشرح عفيفي: «سبق وقدمت دراسة حول روايات «الجائزة العالمية للرواية العربية- بوكر» ورصدت ملاحظة أن معظم الروايات الفائزة بالجائزة منذ دورتها الأولى عام 2008 إما روايات تاريخية أو متعلقة بالتاريخ؛ فاز بالجائزة بهاء طاهر عن رواية «واحة الغروب»، ثم يوسف زيدان فى السنة التالية عن رواية «عزازيل» وهناك أيضا رواية «الديوان الاسبرطي» للجزائرى عبد الوهاب عيساوي، ورواية «دروز بلجراد» للكاتب اللبنانى ربيع جابر.

لفظ الرواية التاريخية فى حد ذاته يعتبر إشكالية مهمة؛ فالرواية تقوم على التخييل والتعبير الأدبى بالتالى هل يصح أن تكون نافذة للمعرفة التاريخية؟.

يرى دكتور محمد عفيفى أنها بالفعل إشكالية كبيرة جدا: «أنا مثلا كنت أفاجأ ببعض الأصدقاء خلال العقدين الأخيرين يهتمون بدعوتى لمناقشة أعمالهم الروائية (التاريخية) فيقول الروائى صاحب الدعوة أنه ظل فترة يجمع المادة العلمية والتاريخية وأن كل كلمة فى الرواية دقيقة ثم أكتشف أنه وضع قائمة بالمراجع فى نهاية الرواية وكنت أسألهم فيردوا أنهم يستهدفون تعريف القارئ أنهم لم يكتبوا قصتهم من فراغ فأقول له أنت لا تقدم بحثا تاريخيا ولا تقدم كتابا تاريخيا ثم أستكمل ساخرا: «طب ما تحط هوامش داخل الرواية».

يلفت عفيفى إلى أن الروائى الذى يستخدم التاريخ كأداة لعمله الأدبى يقع فى نفس المشكلة التى واجهت كتب التاريخ التقليدية:» أنت هنا تعمل على تلقين القارئ التاريخ بالملعقة وهو على العكس تماما من هدف الرواية التاريخية أو ما يسمى بالرواية التاريخية فى زمن ما بعد الحداثة، وهو هدف قائم على تشكيك القارئ فى السردية السائدة والتعريف بأن التاريخ حمال أوجه وأن أشركه معى فى رؤية التاريخ».
الرواية التاريخية

ينوه دكتور عفيفى إلى أن ذلك الطرح يدفعنا للسؤال الأهم، هل يوجد شيء اسمه الرواية التاريخية؟، «هناك جدل كبير فى الغرب يقول إن كل رواية هى تاريخ، وأستطيع أن أضرب مثلا بذلك ثلاثية نجيب محفوظ، فهى تاريخ رغم أنه لم يقصد كتابة رواية بذلك المعنى لكن يكفى أن أحد المستشرقين الفرنسيين المهمين وهو الأب جاك جومييه قال عن الثلاثية إن أحدًا لا يستطيع أن يدرس تطور المجتمع المصرى بين الحربين العالمتين دون الاعتماد والرجوع إلى ثلاثية نجيب محفوظ».

يستكمل عفيفى: «فكل رواية هى فى الحقيقة تاريخ للحظة وفترة، حتى لو لم يقصد الكاتب، بالعكس عدم القصدية يجعل الرواية مصدرا تاريخيا مهما لأن الروايات المكتوبة للتأريخ أعمال مؤدلجة بشكل كبير وذلك الرأى يطرح إشكالية أخرى عن سبب تصديقنا للكتب التى يكتبها المؤرخون، هنا نقول إن المؤرخ فى الحقيقة يكتب وجهة نظره ورؤيته للتاريخ».

ربط القارئ والناقد

يعتبر دكتور محمد عفيفى مسألة ربط القراء والنقاد بين الرواية وضرورة كونها تاريخا صرفا أنها مسألة جاءت من تصورنا منذ بديات ما يعرف بالرواية التاريخية خاصة روايات جورجى زيدان وما بعده أنها روايات تقدم حقائق تاريخية، وهى مسألة غير حقيقية:» فنحن تربينا على أن الفيلم التاريخى هو تاريخ وأن الرواية التاريخية هى تاريخ وتربينا أيضا على أن الكتاب التاريخى هو تاريخ وليس أنه وجهة نظر مؤرخ. لم ننشأ على أن التاريخ حمال أوجه وأنه رؤى للمؤرخين مختلفة وأن هناك مؤرخًا فى العصور الإسلامية اسمه ابن طباطبا له وجهة نظر وخلفيته شيعية وهناك الطبرى مؤرخ وخلفيته سنى فبالتالى نتصور أن الرواية والدراما يجب أن تقدم التاريخ الموجود فى ذهننا».

على الرغم من تلك السنوات العديدة التى قضاها محمد عفيفى محاربا فى تلك المسألة نراه يزداد إصرارا يوما بعد يوما: «أنا فى سن ومكانه تجعلنى غير مهتم بالبحث عن مبيعات أو جوائز أو غيره، لكننى أرغب فى ترك رسالة ومن ثمة أمضي، يجب أن يبدأ أحدنا، وقد اخترت البداية، ومن الممكن ألا يتم فهم ذلك الآن، لكنها بداية وربما تفهم بشكل أكبر بعد ذلك، أن ما يسمى الرواية التاريخية لا تقدم تاريخا لكنها تلعب على ما تم تهميشه فى التاريخ أو ما تم السكوت عنه وأن أدواتها التخييل التاريخى، التخييل استنادا إلى حقائق أو وقائع تاريخية».