إنها مصر

العشوائيات .. من القبح إلى الجمال

كرم جبر
كرم جبر

من الموضوعات التى أعتز بها فى حياتى الصحفية منذ 35 عاماً، تحقيق بعنوان "حفرة فى قاع جهنم"، عن عزبة الزبالين أسفل جبل المقطم، وكانت مكاناً موحشاً ومروعاً ومخيفاً، ويجسد مآسى إنسانية مروعة.

الممرات صغيرة وضيقة وتتلوى كالثعابين، والأكواخ القذرة على جانبيها، والحرائق الصغيرة والكبيرة تشتعل فى الزبالة، والأطفال والنساء وكبار السن أجسادهم متسخة بالدخان المتطاير، وكأن بعضهم لم تزر المياه وجهه منذ سنوات.

تم علاج المشكلة وتحسين الأحوال المعيشية إلى حد ما وبمعونات من مؤسسات دولية، ولكن بقى ملف العشوائيات مثل حقول الألغام التى تخشى الحكومات المتعاقبة الاقتراب منه لضعف الإرادة والإمكانيات.

وكانت العشوائيات مادة ثرية لبرامج الفضائيات المصرية والأجنبية، للسخرية والشماتة والنيل من سمعة البلاد وكبريائها وكرامتها، وكأن مصر وطن كبير لبشر خارج إطار الحياة.

وفى السنوات العشر الأخيرة حدث فى مصر ما يشبه المعجزة، بالتخلص من هذه البقع السوداء، واستبدالها بأحياء سكنية نظيفة وهادئة وتليق بالحياة الآدمية.
وشتان بين من يولد ويتربى فى حى عشوائي، وبين من يعيش فى مكان نظيف، وبين العيون التى تتفتح على الزبالة والدخان، والتى ترى الشمس والهواء النقى والشوارع النظيفة.

كانت الحكومات فى السنوات السابقة تواجه المشكلة الخطيرة العشوائيات بالتجاهل وتعاملت معها كأنها ورم خبيث ينبغى التعايش معه، ولم يجرؤ أحد على الاقتراب منه، وظلت البلاد فى قبضة التسيب والإهمال، وسكان العشش والأكواخ والخيام. 

وانشقت الأرض فى السنوات الأخيرة عن رجال أوفياء، نسفوا أحياء الفقر والمرض والجريمة، وأقاموا مكانها مناطق سكنية رائعة، مثل أرقى الأحياء فى الجمال والنظافة والشوارع المرصوفة والأشجار الخضراء والملاعب والمساجد والكنائس والأسواق.. وكل شيء مرسوم بالورقة والقلم.

من كان يصدق أن المنطقة العشوائية المليئة بالزبالة والقاذورات خلف مسجد السيدة زينب يمكن أن تتحول إلى عمارات ذات طراز إسلامى يتناسب مع المكان، بجانب الشوارع المرصوفة، فتتحول المنطقة من مقلب زبالة إلى متحف.

ومن كان يصدق أن مثلث ماسبيرو الجرح النازف فى قلب القاهرة، سوف يأتى عليه يوم تزيله البلدوزرات، ويحل مكانه منطقة حضارية، ستكون علامة مميزة ومنطقة جذب سياحية هائلة.

الأورام لا تتم إزالتها بالمسكنات، ولكن بمشرط جراح ماهر، وكانت مصر بالفعل على موعد مع قائد جريء يأمر بإزالة الأسمرات وعشش السودان والهضبة الصينية وعمارات الإيواء بشبرا الخيمة وعزبة الصفيح وكوم الملح والترعة الضمرانية.. وغيرها من أورام العشوائيات والأسماء التى كانت تحمل كل معانى البؤس والشقاء وحل محلها إسكان الحياة الكريمة.