مصطفى أمين يروى تفاصيل ولادة الحلم فى بلاط صاحبة الجلالة

مصطفى أمين يروى تفاصيل ولادة الحلم فى بلاط صاحبة الجلالة
مصطفى أمين يروى تفاصيل ولادة الحلم فى بلاط صاحبة الجلالة

مصطفى أمين 

فى يوم 15 يونيو 1952 تحقق حلم من أحلى أحلامنا.. عشنا نتمناه سنوات طويلة، نتصوره فى خيالنا، نرسمه على الورق، نعد له التجارب، نختار له الأسماء؛ مدة الحمل فى الطفل لا تتجاوز تسعة أشهر، أما مدة الحمل فى الجريدة فهى عمر طويل من المحاولات والاستعداد والتردد، والإقدام والجهد والعرق، فى هذا اليوم أصدرنا العدد الأول من جريدة «الأخبار».

ولعل كثيرين لا يعرفون كيف سُميت هذه الجريدة «الأخبار»، ولعلهم لا يعرفون أن رخصة «أخبار اليوم» صدرت كجريدة يومية وليست جريدة أسبوعية، وعند إصدار «أخبار اليوم» كانت الفكرة أن تصدر أسبوعية مؤقتًا.. ثم تصدر بعد ذلك كل يوم..

لكن نجاح «أخبار اليوم» منذ العدد الأول جعلنا نتردد فى أن نغامر باسمها الضخم فى مشروع جديد، ورحنا نبحث عن اسم جديد، وفكرنا فى اسم «آخر لحظة»، وبدأت التجربة بصدور «آخر لحظة» كملحق لمجلة «آخر ساعة» وأثرت «آخر لحظة» يوم الأربعاء على توزيع الصحف اليومية كلها فى ذلك اليوم، وشجعنا النجاح على أن نكرر التجربة فصدرت «آخر لحظة» يوم الإثنين من كل أسبوع، ثم صدرت يوم الجمعة.

وكانت تصدر بنصف حجم «أخبار اليوم»، ونجحت «آخر لحظة» نجاحاً مذهلاً واحتلت الصف الأول بين الصحف اليومية، ولهذا بدأ التفكير فى تحويلها إلى جريدة يومية، واختلفت أسرة «أخبار اليوم» فى حجم الجريدة الجديدة؛ فريق يرى أن تصدر بحجم «آخر لحظة»، وفريق يرى أن تصدر بحجم «أخبار اليوم»، وجرى اقتراع بالتصويت، فرأت الأغلبية أن تصدر الجريدة الجديدة بالحجم الكبير، وبقيت مشكلة اسم الجريدة.

كان فريق منا يرى أن يكون اسمها «آخر لحظة»؛ وفريق كان يرى أن يكون اسمها «أخبار النيل»؛ وفريق ثالث يريدها «الأخبار»؛ وفريق رابع يريدها «أخبار اليوم»، ثم عقد رؤساء تحرير الجريدة اجتماعًا فى منزل الأستاذ محمد التابعى لتقرير الاسم، وحضر الاجتماع الأساتذة : توفيق دياب، ومحمد زكى عبد القادر، وكامل الشناوى، وجلال الحمامصى، وعلى أمين، وأنا.

وكان يعجبنا جميعًا اسم «أخبار اليوم» كجريدة يومية، ولكن فريقاً منا كان يشفق أن نغامر بهذا الاسم فى مغامرة مجهولة، لقد نجحت «أخبار اليوم» نجاحاً ساحقاً كجريدة أسبوعية، أصبحت علماً خفاقاً فى كل بلد من بلاد العالم فكيف نجىء اليوم ونعرضها لهذه التجربة القاسية.. فقد تفشل الجريدة اليومية فتذهب وتأخذ معها الجريدة الأسبوعية الناجحة.

واضطررنا أن نعدل عن اختيار اسم «أخبار اليوم» على الرغم من أن هذا الاسم لم يكن فى حاجة إلى إعلان، وعلى الرغم من أنه كان يوفر علينا ألوف الجنيهات التى أنفقناها فى الدعاية للاسم الجديد..

وعلى الرغم من أن إصدار جريدة «أخبار اليوم» اليومية كان يوفر علينا ثلاثة أرباع الجهد الذى بذلناه لإنجاح المشروع الجديد! ولكن «الجبن» سيد الأخلاق.. فهو الذى جعلنا نعدل عن الاستفادة من اسم «أخبار اليوم». أو لعله «الحرص»، كما قال آخرون، هو الذى أرغمنا أن نتهيب المغامرة بمستقبل «أخبار اليوم».

ثم علمنا أننا لا نستطيع أن نحصل على اسم «الأخبار» لأن ورثة أمين الرافعى كانوا يملكونه، فرأى فريق منا أن نسمى الجريدة «الأخبار المصورة»، واختار فريق آخر اسم «الأخبار الجديدة»، وأخذت الأصوات فنالت «الأخبار الجديدة» الأغلبية. وكانت «الأخبار» أول جريدة يرأس تحريرها خمسة رؤساء تحرير فى وقت واحد، هم: جلال الدين الحمامصى، وعلى أمين، وكامل الشناوى، ومحمد زكى عبد القادر، ومصطفى أمين؛ وكان المفروض أن ينضم الأستاذ توفيق دياب إلى رؤساء التحرير ولكنه اعتذر فى ليلة صدور الجريدة، وقررنا أن نجعل أستاذنا محمد التابعى مديراً للتحرير تكريماً له، وكان موسى صبرى وعلى الجمال نائبين لرئيس التحرير.

وعندما دارت المطبعة جعلنا أول نسخة من «الأخبار» فى أيدينا، وتوهمنا بحكم الأمومة أننا نحمل أجمل طفل فى الدنيا تطبيقاً للنظرية التى تقول: القرد فى عين أمه غزال ! ولكن غزالنا لم يعجب القراء، فقد كان شكل المولود الجديد مختلفاً عن كل الصحف اليومية!

كان القارئ اعتاد أن يفطر فى الصباح طبق الفول المدمس وفوجئ بساندوتش ! 

لم يعجب القراء هذا النوع من الصحافة الجديدة، اعتبرنا ارتفاع سعر الملوخية أهم من تعيين وزير جديد للزراعة.. عاملنا متاعب الناس على أنها أهم من حرب كوريا، وأنهينا عصر التطويل واللت والعجن فى الصحافة المصرية، كنا أشبه بقوم يدعون الشعب إلى خلع الجبة والقفطان وارتداء المايوه ! وهبط العدد الثانى عن العدد الأول؛ فى العدد الأول كنا أوسع الصحف انتشاراً، وفى العدد الثانى أصبحنا أقل الصحف انتشاراً، ولم نيأس، اجتهدنا وتعبنا وسهرنا وكافحنا وتحملنا الخسائر الفادحة.. كنا نتحمل الضربات ونصمت للمطارق تنهال فوق رؤوسنا..

نجد متعة وهناء فى الكفاح والبناء، كنا فريقاً واحداً من المحررين والموظفين والعمال، لا رئيس ولا مرؤوس، نفطر معاً ونتغدى ونتعشى معاً، ولا نذهب إلى بيوتنا إلا بضع ساعات كل يوم، لا عطلة ولا إجازة ولا تزويغ، كان شقاءً لذيذاً، لذة لا حصر لها. وبعد شهرين اثنين أصبحت «الأخبار» هى أوسع الصحف فى مصر انتشاراً، وقفزت من المرتبة الثالثة إلى المرتبة الأولى.
كانت «الأخبار» جريدة سعيدة الحظ، فبعد صدور العدد الأول منها بخمسة أسابيع فقط قامت الثورة، وإذا بالجريدة الوليدة تصبح فى يوم وليلة أوسع الصحف اليومية فى الشرق الأوسط توزيعاً، واستطاعت أن تحقق انتصارات ضخمة لعل من أبرزها أنها كانت أول جريدة نشرت أسماء أعضاء مجلس الثورة، وكانت أول جريدة أذاعت السر الخطير وهو أن اسم زعيم الثورة الحقيقى هو جمال عبد الناصر.

 وأذيع هذا السر لأول مرة فى سلسلة مقالات بدأتها بعد الثورة بعنوان «قصة التسعة» وأثارت إذاعة الأسرار ضجة كبرى، وتقرر وقف المقالات العشرة، ولم يكن نشر منها سوى مقالين، وكان المقال الثانى عن كيف عارض جمال عبد الناصر فى إعدام الملك فاروق، وكيف أصر على أن تكون الثورة بيضاء لا تراق فيها نقطة دم، وذات يوم زارنا الأستاذ عبد الفتاح الرافعى، واقترحنا عليه أن نأخذ رخصة «الأخبار» من الورثة فرحب وقال إنه يهمه أن تعود «الأخبار» التى كان يصدرها أخوه وتصبح من جديد علماً خفاقاً!

انتقلت لنا رخصة «الأخبار» وعرضنا الأمر على زملائنا المحررين فعارضوا أن نغير اسم «الأخبار الجديدة» بعد النجاح العظيم الذى ناله الاسم. وتحايلنا على تنفيذ قرارنا، فكانت كلمة «الجديدة» تتضاءل شيئا فشيئاً تحت اسم «الأخبار» حتى اختفت فجأة، وأصبح اسم الجريدة «الأخبار» فقط،  ولم ينتبه أغلب المحررين لهذا الذى حدث إلا بعد بضعة أيام ! ونجحت «الأخبار» وأصبح اسمها على كل لسان. ولم يكن ما حدث معجزة، وإنما الذى حدث أننا كنا نعيش فى قصة حب، حب جريدتنا، وحب وطننا، وحب عملنا، وحب بعضنا؛ كلنا كنا رؤساء وكلنا كنا عمالاً! كلنا كنا آباء الجريدة وأولادها! كل عامل وكل محرر وكل موظف وكل ساع وضع طوبة فى البناء، ووضعنا العرق والدم والدموع بين الطوب بدل الأسمنت المسلح.

ولم يكن الطريق سهلاً، والضربات التى انهالت على رأس الجريدة زادتها ثباتاً وجعلت لها جذوراً، والعواصف والأعاصير التى هبت عليها منحتها قوة وصلابة وقدرة على المقاومة، الفشل علمها النجاح والصدمات دربتها على الصبر، وكان أقوى ما فى «الأخبار» أنها أسرة واحدة، كان العرق على جباهنا كأغلى الروائح العطرية، وكان الحبر على أصابعنا جميلاً كالمانيكير فى أصابع حسناء، وكان صوت المطابع يغنى فى آذاننا كصوت أم كلثوم، كنا نعمل فى طابقين ونشعر كأننا نعمل فى ناطحة سحاب، كنا نذهب إلى مكاتبنا وكأننا ذاهبون إلى معبد لتأدية الصلاة، وكان الله معنا، وإذا توقفنا دفعنا على الطريق وإذا أظلمت الدنيا فى عيوننا أضاء لنا الطريق، وإذا تعثرنا مد لنا يده وساعدنا على الوقوف من جديد.

كنا لا نصدق أننا نجحنا.. ولهذا مكثنا سنوات نحتفل بعيد ميلاد «الأخبار» صباح كل يوم، فقد كنا نولد كل يوم فعلاً!

مصطفى أمين 

ولادة «الأخبار» فى عهد وزارة الهلالى باشا

لم يفصح مصطفى أمين أو توأمه على أمين عن سبب اختيارهما لمنتصف شهر يونيو من عام 1952 لإصدار جريدتهما اليومية «الأخبار»، فى ظل ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية لم تعهد المملكة المصرية اشتعالها من قبل، وقد صدر الأمر الملكى «21» بتشكيل وزارة جديدة فى الأول من مارس 1952 برئاسة أحمد نجيب باشا الهلالى وهى الوزارة التى استمرت فى عملها حتى 2 يوليو 1952  وولدت فى عهدها «الأخبار» التى شاء لها الحظ أن تشهد حركة الجيش التى تحولت لثورة 23 يوليو بعد ولادة الأخبار بخمسة أسابيع فقط، وقد تشكلت الوزارة التى صدرت فى عهدها جريدة «الأخبار» من «صليب باشا سامى الذى تولى وزارتى التجارة والصناعة والتموين، وطه محمد عبد الوهاب السباعى لوزارة الشؤون البلدية والقروية، ومحمد كامل مرسى باشا لوزارة العدل، ومحمد المفتى الجزايرلى باشا لوزارة الأوقاف، ومحمد عبد الخالق حسونة باشا لوزارة الخارجية، محمد زكى عبد المتعال لوزارتى المالية والاقتصاد، وأحمد مرتضى لمراغى لوزارة الداخلية والحربية والبحرية، ومحمد رفعت باشا لوزارة المعارف العمومية، ومحمد فريد زعلوك وزير دولة للدعاية، وطراف على باشا لوزارة المواصلات، ونجيب إبراهيم باشا لوزارة الأشغال العمومية، ومحمود عثمان غزالى باشا لوزارة الزراعة، وراضى أبو سيف راضى لوزارة الشئون الاجتماعية والصحة العمومية». 
 

عمالقة العصر الذهبى لجميلة الجميلات

أمير الصحافة محمد التابعى يترأس اجتماع مجلس تحرير جريدة «الأخبار» الذى كان يعقد كل اثنين من كل أسبوع، ويتكون الاجتماع من رؤساء التحرير وهم:
أحمد الصاوى محمد
حسين فريد
 محمد زكى عبد القادر
مصطفى أمين
جلال الدين الحمامصى 
أحمد لطفى حسونة 
أحمد بهاء الدين 
على أمين
موسى صبرى
رئيس التحرير التنفيذى 

«الأخبار» تصنع أسطورة فاروق إبراهيم

 تميزت دار «أخبار اليوم» بكتيبة من عمالقة التصوير الصحفى الذين قدموا إبدعاتهم لكل مطبوعات الدار، وكان من بين المتميزين بلقطاته الفريدة على صفحات «الأخبار» المصور الموهوب فاروق إبراهيم الذى عمل فى بداياته ساعيًا بسيطًا، ولعبت الصدفة دورًا فى حياته عندما صور مظاهرات فى الشارع لحظة خلو قسم التصوير ممن يعملون به وانتقل للعمل فى جريدة «بناء الوطن» التى أسستها رئاسة الجمهورية عام 1957 ولفتت لقطاته نظر على ومصطفى أمين وكتب له الحظ ميلاد نجوميته على صفحات «الأخبار» فى لقطات فريدة التقطها لعبد الناصر وسط الجماهير، والتقطه العندليب عبد الحليم حافظ ليرافقه فى كل مكان فصور له 33 ألف صورة طوال مشواره والتقطته بعدها أم كلثوم ليصنع لها أروع لقطاتها بجوار أبو الهول والأهرامات وجعلها هرمًا رابعًا، وصور جميع الفنانين والفنانات والمشاهير والزعماء حتى انفرد بصور خاصة جدا للرئيس السادات فى بيته وهو مستلق على الأرض فى حالة استرخاء وهو يحلق ذقنه فى الحمام بملابسه الداخلية فكانت المرة الأولى التى تخترق فيها الكاميرا الحياة الشخصية للرؤساء، ما دعا الرئيس السادات لاصطحابه معه خلال زيارته للقدس، وخلال توقيع اتفاقية كامب ديفيد، وغيرها من المناسبات القومية والتاريخية التى صنعت مجده كمصور أسطورى من خلال صفحات «الأخبار» جميلة جميلات شارع الصحافة. 
 

آخر 2/1 كلمة للساخر الأعظم  قبل رحيله

- ورحل الساخر الأعظم أحمد رجب فى 12 سبتمبر 2014  بعد رحيل رفيق دربه مصطفى فى 16 أغسطس من نفس العام، وكأنه لم يطق الحياة بدونه

 

2/1 كلمة

تسع سنوات استمر الموبايل فى الخدمة حتى أدركته الشيخوخة، واشتروا لى تليفوناً مليئاً بالأزرار، هذا زر للقاموس، وهذا زر للعمليات الحسابية، وهذا زر لتكييف الهواء، وهذا زر لخرط الملوخية، وهذا زر دورة المياه، وهذا للسيفون، وأعداد لا تنتهى من الأزرار، أما الكلام فى التليفون فهو مشكلة المشاكل، الصوت بعيد جداً من يريد الاتصال بى لابد أن يتوافر عنده صبر أيوب.

أيقونات فى تاج جميلة الجميلات

توالى على رئاسة تحرير «الأخبار» التى أسسها على ومصطفى أمين منذ صدورها فى 15 يونيو 1952 وحتى كتابة هذه السطور أيقونات من رواد المهنة أصحاب القامات الكبيرة التى صنعت مجد «الأخبار» فى مراحل زمنية حملت الكثير من التحديات والصعاب التى تم مواجهتها بالصمود والمقاومة، ومن هذه الأيقونات التى كات تسلم الراية خفاقة لأيقونات تأتى بعدها: «أمير الصحافة محمد التابعى - على أمين - مصطفى أمين - جلال الدين الحمامصى- كامل الشناوى - محمد زكى عبد القادر- أحمد الصاوى محمد - حسين فهمى - موسى صبرى - سعيد سنبل - جلال دويدار - محمد بركات - ياسر رزق - د. محمد حسن البنا - خالد ميرى - وأخيرًا د. أسامة السعيد رئيس تحرير «الأخبار» الجديد الذى بدأ عهده بخطة تطوير أعادت للجريدة مجموعة من الملاحق والصفحات التى تميزت بها وأضاف إليها صفحات وأبوابًا جديدة فى ثوب جديد يحافظ على كافة المراحل التى مرت بها جميلة جميلات شارع الصحافة..

آخر «فكرة» لعلى أمين من سرير المرض

مع صدور جريدة «الأخبار» ظهرت على صفحاتها عدد من الأعمدة اليومية موقعة بأقلام كبار كتابها ومفكريها، وكان من بينها مقال «صباح الخير» لمصطفى أمين، و«دخان فى الهواء» لجلال الحمامصى، و«نحو النور» لمحمد زكى عبد القادرة، و«ما قل ودل» لأحمد الصاوى محمد، وغيرها من الأعمدة التى احتضنتها صفحات «الأخبار»، ويقول مصطفى أمين إن توأمه على أمين كتب عمودًا بدون عنوان، واختاروا له عنوان «فكرة» التى حققت جماهيرية طاغية، وظل يكتبه حتى آخر لحظة فى حياته، وواصل كتابة الفكرة توأمه مصطفى أمين بعد رحيل شقيقه، وفى مقال بعنوان «فكرة.. على أمين» للكاتبة الكبيرة سناء البيسى التى كانت ترافق على أمين فى أيامه الأخيرة بالمستشفى وكان يخطط لوضع ماكيتات مطبوعة جديدة باسم «آخر لحظة»، وتكشف لنا فى مقالها عن آخر فكرة كتبها على أمين قبل رحيله بأيام، عثرت عليها بين الملفات التى تركها، ولم يسمح الوقت بنشرها وقال فيها: 

«بينى وبين المرض حرب شعواء! لا أنا أستسلم أو أرفع الراية البيضاء، ولا هو يتركنى أعمل كما أريد أن أعمل وأعيش كما أريد أن أعيش! معاركنا معاً لا تنتهى. مرة أغلبه، ومرات يغلبنى، وأنا أكتب هذه السطور بعدما غادرنى خمسة أطباء أحاطوا بفراشى، يريدون منى أن أحنى رأسى أمام هذا الطاغية الجبار، وأنا أصر على مقاومته وتحديه. 

أريد أن ألقى بكل الأدوية من النافذة، وأريد أن أقفز من فراشى، وأرتدى ملابسى، وأعود إلى مكتبى! 

إن أخبار اليوم هى حبيبتى، لا أستطيع فراقها يوماً واحداً، أدق بابها فى الصباح المبكر أحياناً قبل السعاة والفراشين، ولا أتركها فى المساء إلا بعد أن ينصرف أغلب الزملاء! ولا أعرف سر هذا العشق الذى لا يريد أن يشيخ ! بل كلما مرت السنوات على هذا الحب تضاعف وزاد وتحوَّل إلى جنون ! 

يقول لى الأطباء إنه عندما ارتفعت درجة حرارتى بالأمس إلى أربعين درجة كنت أخطرف! فأذكر الصفحات والبروفات والأعمدة والأخبار، وأتحدث وأنا مغمض العينين إلى محررين وهميين، وعندما انتهت هذه الخطرفة عدت أفكر فى الكتابة من جديد، وكأنى أتوسل إلى المرض أن يتركنى لحظات لأكتب إلى القراء الذين أحبهم. 

أتوسل إلى الألم أن يمنحنى دقائق لأؤدى واجبى، وعندما أمسك بالقلم فى يدى تخف آلامى، وأحس أن الحياة دبت فىّ من جديد، كأن الحبر هو إكسير الحياة، وكأن القلم الذى أمسكه فى يدى سلك كهربائى يحمل إلى جسدى كهرباء غريبة تدير كل الخلايا الموجودة فيه، ولقد كنت دائماً أحب أن أكون رأسمالياً فى آلامى، أحتفظ بها كلها لنفسى، واشتراكياً فى أفراحى أوزعها على الناس. 

ولكنى اليوم أحس أن بينى وبين قرائى شركة، وأن من حقى عليهم أن يقاسمونى الخسائر كما يقاسموننى الأرباح، الكاتب يشعر بأن القراء هم أهله. إخوته. أشقاؤه. أبناؤه. ويحس أنهم يهتمون به كما يهتم بهم، إنه قطعة منهم، وهم قطعة منه، وهذا هو الذى جعلنى أحس برغبة دائمة أن ألقاهم كل يوم، أن أصافح كل يد، كأننى أقول لكل واحد منهم صباح الخير، هذا الشعور العجيب الذى يربط الكاتب بقرائه هو أجمل ما فى مهنة الصحافة».

جولة سريعة فى العدد الأول لـ «الأخبار»

صدرت جريدة « الأخبار» جميلة جميلات شارع الصحافة صباح 15 يونيو 1952 فى 8 صفحات، ويطالعنا فى الترويسة أسماء 5 رؤساء تحرير يتقدمهم اسم أمير الصحافة محمد التابعى بصفته مديرًا للتحرير تكريمًا له كأستاذ لهم جميعًا ،وهم «جلال الدين الحمامصى - على أمين - كامل الشناوى - محمد زكى عبد القادر - مصطفى أمين»، ونطالع أسفل الترويسة مباشرة عنوان تمهيدى يقول «حسين سرى باشا يهاجم تعديل الدستور.. وقانون الانتخاب»، ويليه مانشيت العدد الأول ببنط عريض: «نص عريضة الوفد إلى جلالة الملك».

أسفله عنوان فرعى يقول «كتاب حافظ عفيفى باشا إلى الهلالى باشا» - «الوفديون يطالبون دعوة المجلس السابق - والحكومة ترفض الطلب لعدم دستوريته» ونعرف من الموضوع الرئيسى بالصفحة أبعاد الأزمة السياسية الحادة التى جعلت نواب الوفد يطالبون بعودة البرلمان المنحل بقرار من رئيس الوزارة أحمد نجيب  باشا الهلالى بعد استقالة وزارة أحمد ماهر باشا إثر ما جرى من تداعيات لحريق القاهرة الذى اندلع فى 26 يناير 1952 وسرت النيران المشتعلة لتلتهم عدة منشآت فى مناطق متفرقة من القاهرة خلال ساعات قلائل أتت على نحو 700 محل وسينما وكازينو وفندق، ولم يتوقف أحد وقتها على الفاعل الحقيقى فى هذا الحدث الضخم الجلل الكبير.

وظلت الاتهامات متبادلة تلقى مرة على ملك البلاد وتلقى مرة أخرى على جماعة الإخوان المسلمين، وتلقى مرة ثالثة على بعض الأحزاب والجمعيات السرية وقوى خارجية، وهذا يوضح أن جريدة «الأخبار» كان يتم التحضير لولادتها فى ظل ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية ملتهبة، وظلت القاهرة وقتها على سطح من صفيح مشتعل حتى لما بعد ولادة  «الأخبار» فى ظروف مهدت لقيام حركة الجيش المباركة التى ساندها الشعب وتحولت لثورة 23 يوليو 1952. 

وفى منتصف الصفحة الأولى أخبار قصيرة عن التعليمات المهمة التى صدرت للبنوك لمواجهة الحالة الاقتصادية واعتبار الجنيه الإسترلينى عملة صعبة من هذا التاريخ 

ونشرت الجريدة فى الصفحة الأولى أول صورة للملكة «زين» ملكة  المملكة الأردنية الهاشمية مؤكدة أنها تنفرد وحدها بحقوق نشر صورة الملكة التى يقع بجوارها خبر عن اتصال تليفونى بين العاهل الإردنى الملك طلال وولى عهده الأمير حسين حول الملكة «زين». 

ويستوقفنا فى العدد الأول من «الأخبار» التحقيق الصحفى الذى أرسل به أمير الصحافة الأستاذ محمد التابعى من العاصمة الفرنسية «باريس» بعنوان فرعى يقول فيه «شعوب العالم الضعيفة بين جيشين قويين» -  تتبعه الجريدة بعنوان ببنط أكبر تقول فيه : «تحقيق صحفى للتابعى فى أوروبا»، ثم العنوان الأبرز الرئيسى ببنط كبير  فى صيغة السؤال: «هل نحن على أبواب حرب عالمية ثالثة؟». 

ويكتب مصطفى أمين عمود بالصفحة الأخيرة من العدد بعنوان «صباح الخير» يشن فيه هجوماً على عدد من الوزارات التى لا تقوم بواجب اختصاصاتها وتنشغل باختصاصات أخرى فيقول: «كل وزارة تغنى على ليلاها، فبينما  نجد وزارة الصحة تفكر فى إنشاء مكاتب للخدمات الاجتماعية تلحق بالمستشفيات، نجد أن وزارة الشئون لها نفس هذه المكتب وتقوم بنفس الخدمات ! فالمسألة هى بعزقة فلوس! كل وزارة تريد أن تفعل كل شىء، وكل وزارة تقوم بواجبات الوزارات الأخرى ولا تقوم بواجباتها، وربما يجىء يوم نسمع فيه أن وزارة الأوقاف تنشىء أسطولا وسلاح طيران، وأن وزارة الخارجية قررت الاشتغال برصف الشوارع المكسرة !»..

وفى أسلوب دعائى تسويقى مبتكر تروج به الجريدة لنفسها لتحقيق ما تتمناه من توزيع، نشرت اعلانا تقول فيه  ببنط بارز وكبير : «ألف جنيه لك.. ومائة جنيه أخرى لمائة قارئ» ويوضح الإعلان الترويجى أن من سيحتفظ  بـ25 عددًا متتاليًا للجريدة سيحق له الاشتراك فى السحب فى نهاية الشهر تحت إشراف مندوب من وزارة الداخلية، وسيربح صاحب النمرة الأولى ألف جنيه ويربح مائة قارئ آخرين مائة جنيه أخرى بواقع جنيه واحد لكل فائز».

ويتناول العدد أخباراً مصورة طريفة من خارج المملكة المصرية، من بينها خبر عن تجربة أمريكية تم إجراؤها على قط تم تدريبه على ترويض الفئران !
ويتناول العدد إعلاناً آخر، محلات أمين ونور السرجانى أقدم محلات الجواهرجية التى تأسست سنة 1776، وإعلان بعنوان «أعجوبة القرن العشرين - كريم «بروسكين» ضد التجاعيد».

العدد الأول من «الأخبار» يتسم برشاقة الخبر والتقارير القصيرة والتحليلات التى تم صياغتها بأسلوب بسيط لم يعتده القارئ فى الصحف الأخرى، وتنوع المقالات القصيرة لكتابها الكبار بما يؤكد أن الجريدة التى حملت اسم «الأخبار الجديدة» ولدت شابة رشيقة فى ثوب جديد.