قضية ورأى

الفاتورة الثقافية والفكرية للاستيراد

د.محمد سليم شوشة
د.محمد سليم شوشة

د.محمد سليم شوشة

يصبح اعتياد الاستيراد فى الأساس خطراً على الأمة، ويشكل تدشيناً لثقافة الاستهلاك

ما يتجلى على السطح، وبشكل مباشر من فاتورة للاستيراد، يتمثل فى العملة الصعبة، والثمن الذى ندفعه فى هذه السلع، لكن الحقيقة أن هناك فى الأعماق فاتورة حقيقة أخطر بكثير من الثمن الدولاري، أو الفاتورة المالية للاستيراد، إذ يصبح اعتياد الاستيراد فى الأساس خطراً على الأمة، ويشكل تدشيناً لثقافة الاستهلاك، وترسيخاً للكسل والخمول العقلى والفكري.
عمليات الإنتاج فى الصناعة مثلاً، تقوم بالأساس على دورة كاملة من الحياة، وليس على الخبرة التصنيعية فى صورتها النهائية، فالصناعة وراءها اختراعات واكتشافات علمية وحياة عملية وفكرية، وإيقاع حركى للمجتمع يؤمن بالعلم والصناعة، ويؤمن بمبادئ البحث العلمى والتطوير الدائم، والقدرة على مخاطبة العالم، والبحث فى احتياجاتهم، والقدرة على تسويق المنتجات لديهم، فهذه الخبرات التى يكتسبها المجتمع المنتج تشكل دورة حياتية كاملة، وليس مجرد خبرة تصنيعية موروثة، ومتمثلة فى الشركات المنتجة، كما قد نتصور للوهلة الأولى.


ولذلك نجد أن الأمم المنتجة تنصلح أمور كثيرة لديها، بخلاف الحالة الاقتصادية، فينعكس ذلك على حالتها من السلوك الحضارى العام السائد فى المجتمع، وتنصلح الحياة العلمية والفكرية ومستوى الحوار، وينعكس ذلك على كل أبعاد الحياة، بما فيها الجوانب الأمنية والطابع القيمى والأخلاقي، لأن الإنسان المنتج هو إنسان يدرك قيمة الأشياء، ويقدّر الحياة، وبالتالى هو إنسان منتمٍ فى أعلى درجات الانتماء، لأن يلتحم بالوطن، ويدرك أنه يحتاج لأن يعطى مثلما يأخذ.


الشركات المستوردة فى الحقيقة هى أكبر مخطئ فى حق وطننا، وبخاصة إذا كانت قادرة على استيراد خبرة بدلاً من استيراد منتج، لكنها تقاعست عن ذلك، وبدلاً من أن ترسخ لصناعة معينة وتتنامى وتتطور، تظل مكتفية بأرباحها من الاستيراد، وبعضها قد يكون مبالغاً فيه، لكنها لو كانت تدرك أن اتجاهها للصناعة والإنتاج، وترسيخ صناعات وإنتاج فى القطاعات التى تعمل فيها، لعملت بحق على تقوية نفسها وتقوية مجتمعها. فأمان هؤلاء المستوردين ليس فيما يحققون من أرباح أو يجنون من مكاسب، بل يجب أن يدركوا أن أمانهم الحقيقى فى تقوية مجتمعهم واستدامة صناعتهم، أو استدامة حضورهم عبر الإنتاج والإنتاج الكامل وليس الجزئي، حتى ولو تدرج عبر مراحل معينة ينقلون فيها الخبرة من البلدان أو الشركات العالمية التى يستوردون منها، كما نجد فى صناعة السيارات مثلاً.


لو أدرك المستوردون أن أمانهم الحقيقى ليس فى الربح السريع، أو فى أرقام من الحسابات المالية فى البنوك، بل فى أمان مجتمعهم وتقوية دولهم وثقافاتهم، لكانوا عملوا وفق مسار مغاير تماماً، من ترسيخ للصناعات بدلاً من الاستيراد، بل وترسيخ للعمل كذلك بأن تكون كل صناعة لها مراكزها البحثية الخاصة، واستثمروا فى العلم والبحث العلمى والمعرفة، فهذا هو الأبقى والأكثر استدامة لهم ولمجتمعنا.