تساؤلات

شوف يا سيدى

أحمد عباس
أحمد عباس

وطالما تساءلت: أما آن لهؤلاء الناس ان يحلوا مشكلاتهم بعيدا عن رؤوسنا أو أن يعطف عليهم أحد ويسمعهم حتى ولو من باب الشفقة؟!

الموضوع غريب جدا على رأسى ويبدو مستجدا على تجربتى وعلى فكرى بالكلية، ما هذه القضية أصلًا ومتى آن لها أن تكون فى ذكرى أو أن تلوح لى؟.. لا أعرف.
سمعت زمان جدا عن جيل الوسط ولم أعِ مرة هذه التسمية وكنت أتساءل دائما: هل هم الذين تعثروا فى المشوار فتسمروا فى وسط الطريق، أم أولئك الذين فقدوا السبل فجأة فبقوا فى مفرق طرق تائهين؟ أو لعلهم من كانوا كسالى وتلكأوا حتى فاتتهم الفرص، حتى سمعت أحدهم مرة -كان ممثلا معروفا ثم صار فنانا ضخما- على شاشة تلفاز قديم يصفهم بأنهم كالذين رقصوا على السلم، لا الواقفون فوق سمعوهم ولا المنتظرون تحت رأوهم، ثم ثبت بهم الحال.


وامتلأت على مدى المشوار بتحديات هذا «الجيل» وعثراته وثغراته وسقطاته ونجاحاته وتحدياته وانجازاته وكل ما كان يمر به بالتفصيل، رأيته فى سينمات وسط البلد وشاهدته فى الحياة العامة والخاصة والمحافل والمقاهى والندوات والمؤتمرات وعلى النواصى وفى البارات والحانات الرخيصة والأزقة والحارات وفى مجالس الادارات، سمعتهم يتهامسون على مدار عمرى فيما بينهم خفية وعلانية فى مسائل لم أفهمها أبدا، يتجادلون مثلا حول عناوين كهذه: العلاقة بين الفرص المتاحة والمساحات المأمولة، والعولمة فى ظل التحديات القائمة، والرهانات المنشودة فى غياب السياق الضمنى للمرحلة، يااه ومن هذه العينة أصناف كثيرة مما صعب علىّ حفظه والاحتفاظ به.


تابعت معاركه وكنت أراه مدعيًا أو للحق.. مكبر الموضوع، ولا يهم أى موضوع، المهم أن الموضوع كبير جدا -فى نظره- مهما كانت هويته وقضيته ومربط فرسه وحجر زاويته وكلما استطعت تضخيم الأوصاف.. افعل.


وعلى مدى عمرى كله رأيت من هؤلاء أجيالا متعاقبة تلصصت على أحاديثهم وتجسست على حواراتهم وبرغم اهتمامى بهذا الجيل كنت لا أعبأ أبدا بنبراته وشعاراته ومناداته ومطالبه وآماله، كنت لا أهتم بقضيته أصلا ومالى أنا ومال هؤلاء الذين انحشروا فى المنتصف فأنا شاب صغير أو شاب كبير لا ضير المهم أننى شاب فى عز ألقى. سئمت جدا من كل ما رددوه هذا وطالما تساءلت: أما آن لهؤلاء الناس ان يحلوا مشكلاتهم بعيدا عن رؤوسنا أو أن يعطف عليهم أحد ويسمعهم حتى ولو من باب الشفقة؟!
كنت اتذمر جدا من حديثهم الدائم عن ندرة الفرص وصراعات الجيل السابق وآمال الشباب وتمكين المهرة والاستعانة بالكفاءات دون النظر الى اعمارهم واشكالهم والوانهم وأصولهم وطبيعة لهجتهم أو خفة ظلهم من عدمها.


ياه لسرعة هذه الأيام سارت ولفت واستدارت، كيف مكرت بى واحتالت على وعلى من هم معى وأنا بينهم وسرقتنا، متى صرت أنا جيل الوسط ذلك ولماذا لم أمنحهم فرصتهم؟ ربما كانت فرصة نجاة أخيرة لأحدهم، كم كنت ظالما أنا وقاسيا على هؤلاء الذين تأوهوا كثيرا فى السكة. اليوم غدوت أنا بينهم وعرفت معنى أن تنحشر فى ثلثى عمرك لا منتصفه، وانهم -جيل الوسط- هم الذين شعروا فجأة بـ زنقة المكان وسرسبة العمر وسرعة انزلاق المنحنى، وجدتنى ألوم نفسى جدا وأتساءل: كيف سمعت أنينهم وصراخهم وتجاهلت؟ ومن الآن يحن على ويسمعنى؟!
فى العموم كنت أطالع معاركهم الفكرية وانتصاراتهم الفخرية وفى داخلى أسخر جدا كأننى أقول لهم فى سرى هذه طواحين هواء وسراب ومتابعة لأسراب طيور مهاجرة فقط، مجرد تفويت وقت وانشغال بعناوين كبرى دون محتوى حقيقي، لم أكن أعلم بأنها مجرد «تنفيسة».